الاثنين، 6 أكتوبر 2014

عيد كلكامش وأنكيدو وكاوه


عيد كلكامش وأنكيدو وكاوه


فارس حامد عبد الكريم

 
27/11/2008 ، اليوم يوم عيد في العراق ، يحق لنا ان نحتفل به اياماً وسنين ، وان نرتدي فيه أجمل الحلل ، وان نفتخر به أمام الأجيال القادمة، انه عيد اتفاقية جلاء القوات الأجنبية من بلاد الرافدين.

انه يوم تاريخي بحق فطالما أُحتل العراق عبر التاريخ وأُسر اهله ،ولكن وجه العراق الحر المشرق لم يكن ليغيب عن الدنيا طويلاً ، كلما نهض كلكامش عراقي من ظهر امه وابيه  ليكسر قيود الاسر ويفتح للحضارة والتقدم ابواباً ، وهكذا سادت  سومر وأكد وبابل وآشور على الدنيا بسواعد العراقي والعراقية .

وذات الاسطورة ، اسطورة كلكامش ، تعيد نفسها عبر الزمن ولكن بحكاية مختلفة عن صراع جديد ، انه صراع كلكامش وانكيدو وكاوه الحداد التاريخي مع الانس والجن والشياطين كافة لدفع الاذى والشر عن اهل الرافدين .

وعندما تأمرت كل قوى الشر على العراق الجديد وحكومته المنتخبة، كان لابد من اسطورة وحكاية بطولة جديدة ، وكان لابد ان يحضر كلكامش وانكيدو وكاوه وكل ابطال العراق ليصنعا عيداً جديداً.

انه عيد وطني  وسياسي ذو مغزى ، فهو عيد وطني تأكدت فيه اولاً وطنية من لم نشك في وطنيتهم رغم مؤامرة التشويه الكبرى ، وانجاز كبير وتاريخي توجنا به عرس بناء دولة القانون والديمقراطية في العراق.

 وهو عيد سياسي نضجت فيه سياسة العراق الجديد ، سياسة المصلحة العليا للشعب ، فقد كسبنا الكثير مقابل اقل ما يمكن خسائر ، فالحرية ليست مجانية ولن تكون هكذا في يوم من الايام .

فعلى الصعيد الوطني ، قلما حكمت العراق قيادة وطنية مخلصة ، تقدم مصالح الشعب على مصالحها السياسية الضيقة ان لم تقدم مصالحها الشخصية اصلاً ، وعبر التاريخ ، الذى نشأت فيه الامبراطوريات العراقية الكبرى في سومر وأكد وبابل وآشور ، وما ان يلمع اسم قائد عراقي تاريخي يحكم بلاد الرافدين حتى تتآمر عليه كل قوى الشر لإسقاطه ، فالعراق القوي ضعف لأعدائه ، وهكذا كان العراق بموقعه الإستراتيجي وخيراته التي لا تنضب محل طمع تاريخي حتى قيل ان من يحكم العراق يحكم الجهات الاربعة ، وهكذا استمر حكم الاجانب والمحتلين لبلدنا عقوداً طويلة ، وكان الحكم ينتقل من مستعمر الى مستعمر الى  ان نشأ ارث معنوي تاريخي ينتقل في وجدان العراقيين من جيل الى جيل ، مفاده كره الحاكم ومعارضة كل ما هو سلطوي وحكومي  حقاً كان ام باطلاً  ، ونشأ اعتقاد حتى بين المثقفين مفاده انه  من المعيب تأييد الحكومة ، فللعراقيين صورة تاريخية مؤلمة عن شعراء السلطة ووعاظ السلاطين ، بل كانت مظاهر التخريب تمتد الى الاموال العامة وكأن هناك ثأر يجب اقتضائه من الحكومة ، ووصل الشعور بالوطن والوطنية الى ادنى مستوياته في عهد الدكتاتورية ، فلم يكن يعني الوطن لدى الكثيرين سوى مذبحة يديرها قصاب يدعى صدام ، ولم يكن غريباً على قصاب ان يمتلك ماكنة ثرم لثرم العراقيين.

ومع ذلك لم يختفي حب العراق وارتبط حبه بالذكريات والقصص التي يرويها لنا اهلنا وكبار السن عن الايام الخوالي قبل الثورات والانقلابات ، وكانت تلك القصص تمر في اذهاننا كحلم جميل نراه للمستقبل .

وفي تلك الاوقات العصيبة كانت الدنيا تنزل بنا ، بينما نمت في البادية والجزيرة مدن كانت تحلم في اغرب احلامها ان تكون كبغداد او الحلة او اربيل او نينوى او البصرة ...

ففي حديث تلفزيوني سمعت كاتب اماراتي يقول انه رأى البراد ( الثلاجة ) لأول مرة في حياته سنة 1970 ، عندما جلبه جارهم من الكويت وقدمت له امرأته منه ماءاً بارداً اثار دهشته .

بينما كانت بغداد في الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي عروس الشرق ، ولا تبعد كثيراً عن اجواء كثير من الدول الراقية ، فقد اسس العراقيون دولتهم الوطنية الحديثة سنة 1921، ونال بلدهم استقلاله بدخوله عصبة الامم المتحدة سنة 1932، وسار العراق بعد ذلك على طريق التنمية والإعمار ، فقد شقت الطرق وادخل الكهرباء للمدن وفتحت المدارس والجامعات والمستشفيات وتصاعدت فيه تدريجياً نسبة الخريجين من الكليات ، واضحى لكل علم من العلوم كليته وجامعته الخاصة ، وكانت الاجهزة الكهربائية والسيارات بدأت بالانتشار بصورة ملحوظة ،  وكان شبابها وفتياتها انذاك من اكثر الناس اناقة ، وبني فيها اول ( مول ) في الشرق الاوسط والادنى ( اورزدي باك )  و ( الشركة الافريقية ) و ( حسو اخوان ) وغيرها ولم تبن مثلها الدول المجاورة الا بعد خمسين سنة .

كانت بغداد في تلك الاوقات الجميلة كما عبر عنها نزار قباني في سنة  1962 بقوله في مقطع من قصيدة بغداد:

بغـدادُ.. عشتُ الحُسنَ في ألوانِهِ
لكنَّ حُسـنَكِ لم يكنْ بحسـابي
ماذا سـأكتبُ عنكِ يا فيروزَتي
فهـواكِ لا يكفيه ألـفُ كتابِ

فلماذا انحدرنا حتى كدنا ان نقع في الهاوية ؟

الجواب ببساطة ان اغلب حكوماتنا السابقة لم تكن حكومات وطنية ، وان برزت حكومة وطنية فسرعان ما يسقطها اعداء العراق ، وكان يحكم مدن العراق  في الغالب حكام فاسدون جهلة  يأتون من دول ومدن بعيدة يتركونها بعدهم اكثر خراباً حتى اصبحت مدن العراق ، بلد الحضارة الاولى في التاريخ ، كأنها هياكل صدئة ورمزاً للفقر والجوع والمرض .

الا ان التاريخ غير مساره في يوم خالد عندما خرج ملايين العراقيين بملء ارادتهم الحرة في يوم اجمل من العيد ، يوم انتصرت فيه بقوة ارادة الاخيار على ارادة الاشرار ،لينتخبوا لاول مرة منذ اكثر من 4000 سنة ، حكومة عراقية وطنية خالصة يحكمها دستور دائم خرج للنور عبر استفتاء تاريخي هو الاخر . وكم حبسنا انفاسنا حتى رأيناه يخرج للنور .

وبعد ذلك اليوم الخالد اصبح لكل مدينة عراقية حكام منتخبون من اهلها ، نعم من اهلها ، فهل يسمح العراقيون اليوم لأعدائهم ان يسقطوا تجربتهم الديمقراطية ؟ ان فعلوها فلن تقوم لهم قائمة بعد اليوم.

يا أهلنا الاحبة كلنا شوق ان نراكم في افضل حال ، كلنا امل ان لا نرى العراقي والعراقية وقد هجروا وطنهم ليعملوا في خدمة الاغراب وقد تقطعت بهم السبل وعوملوا بكل قسوة وجفاء وهم اهل العز والفخر والكرامة ، نعم كلنا امل ان تكون بغداد والأنبار والنجف وتكريت ونينوى وديالى وكل مدن ارض التاريخ والحضارة مدناً عالمية يحج اليها الناس من كل حدب وصوب .

ايها العراقيون لكم بكل فخر وإباء ان تبتهجوا بالعيد انه عيد انتصار كل شهداء وضحايا الحرية. عيد ارى فيه كلكامش وانكيدو وكاوه الحداد وكل ابطال الرافدين قد ارتدوا فيه حلة العيد وارتسمت على شفاههم إشراقته البهية، انه عيد الغد العراقي المشرق الذي لاحت تباشيره في الأفق.

*****************

(1)          ـ كتب  نزار قباني  القصيدة في بغداد في 8 آذار 1962.

ونصها الكامل:

 

بغــــداد


مُـدّي بسـاطيَ وامـلأي أكوابي

وانسي العِتابَ فقد نسَـيتُ عتابي

عيناكِ، يا بغـدادُ ، منـذُ طفولَتي

شَـمسانِ نائمَـتانِ في أهـدابي

لا تُنكري وجـهي ، فأنتَ حَبيبَتي

وورودُ مائدَتي وكـأسُ شـرابي

بغدادُ.. جئتُـكِ كالسّـفينةِ مُتعَـباً

أخـفي جِراحاتي وراءَ ثيـابي

ورميتُ رأسي فوقَ صدرِ أميرَتي

وتلاقـتِ الشّـفَتانُ بعدَ غـيابِ

أنا ذلكَ البَحّـارُ يُنفـِقُ عمـرَهُ

في البحثِ عن حبٍّ وعن أحبابِ

بغدادُ .. طِرتُ على حريرِ عباءةٍ

وعلى ضفائـرِ زينـبٍ وربابِ

وهبطتُ كالعصفورِ يقصِدُ عشَّـهُ

والفجـرُ عرسُ مآذنٍ وقِبـابِ

حتّى رأيتُكِ قطعةً مِـن جَوهَـرٍ

ترتاحُ بينَ النخـلِ والأعـنابِ

حيثُ التفتُّ أرى ملامحَ موطني

وأشـمُّ في هذا التّـرابِ ترابي

لم أغتـربْ أبداً ... فكلُّ سَحابةٍ

بيضاءُ ، فيها كبرياءُ سَـحابي

إن النّجـومَ السّـاكناتِ هضابَكمْ

ذاتُ النجومِ السّاكناتِ هِضابي

بغدادُ.. عشتُ الحُسنَ في ألوانِهِ

لكنَّ حُسـنَكِ لم يكنْ بحسـابي

ماذا سـأكتبُ عنكِ يا فيروزَتي

فهـواكِ لا يكفيه ألـفُ كتابِ

يغتالُني شِـعري، فكلُّ قصـيدةٍ

تمتصُّني ، تمتصُّ زيتَ شَبابي

الخنجرُ الذهبيُّ يشربُ مِن دَمي

وينامُ في لَحمي وفي أعصـابي

بغدادُ.. يا هزجَ الخلاخلِ والحلى

يا مخزنَ الأضـواءِ والأطيابِ

لا تظلمي وترَ الرّبابةِ في يـدي

فالشّوقُ أكبرُ من يـدي ورَبابي

قبلَ اللقاءِ الحلـوِ كُنـتِ حبيبَتي

وحبيبَتي تَبقيـنَ بعـدَ ذهـابي

بغداد
في 8 آذار 1962



_______________

بغداد في ـ 27/11/2008 ، عشية توقيع اتفاقية سحب القوات الاجنبية من العراق.

فارس حامد عبد الكريم العجرش الزبيدي

ماجستير في القانون

نائب رئيس هيئة النزاهة سابقاً

باحث في فلسفة القانون                                                                     

والثقافة  العامة

بغداد ـ العراق                 

 
farisalajrish@yahoo.com

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق