الثلاثاء، 22 يوليو 2014

دور المبادئ العامة للقانون في تطوير النظام القانوني والقضائي


دور المبادئ العامة للقانون في تطوير النظام القانوني والقضائي

 




فارس حامد عبد الكريم*

مقدمة

القانون وعاء القيم، بمعنى انه يقوم على جملة من المثل الاخلاقية والاقتصادية والسياسية والواقعية التي تلبي حاجات مجتمع ما في مكان وزمان معينين، إلا ان للقيم حسب الاصل صبغة انسانية عامة فقيم مثل العدالة والحرية والمساواة، هي افكار انسانية لا يختص بها مجتمع معين، فقد تناولت الشرائع القديمة ومن ثم الفلسفات الاغريقية ومن ثم الرومانية والشريعة الاسلامية بحث ودراسة هذه القيم متفقة على قواعد جوهرية تحكمها وإن وقع الخلاف في تحديد مدياتها وآثارها بالنظر إلى الطبيعية الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع، فجوهر العدالة، على سبيل المثال واحد ولكن مضمونها قد يتغير نسبياً بإختلاف ظروف الزمان والمكان، وإذا كان لكل علم من العلوم الطبيعية او الإنسانية ثوابت او بديهيات تكون بمثابة الأساس الذي تستند عليه مجمل معطيات ذلك العلم وهي نقطة انطلاق في البحث وإيجاد الحلول للإشكاليات التي يعنى بها ذلك العلم، وإذا كان لعلوم مثل الرياضيات والهندسة والفيزياء والكيمياء ... وغيرها من العلوم الطبيعية ثوابت وبديهيات ثابتة ومطلقة لا تتغير، فان لعلم القانون ثوابته مع الفارق المستمد من إختلاف طبيعة كل منهما ذلك ان بديهيات القانون قابلة للتطور وتحكمها عوامل النسبية ومتطلبات مواكبة الحياة المعاصرة فهي ثابتة من حيث الفكرة الأساسية ولكنه ثبات نسبي من حيث المضمون.، وعلى هذا النهج استقرت في علم القانون مجموعة من المبادئ القانونية العامة العليا التي تستند عليها جل معطياته دونما حاجة لنص تشريعي ينص عليها لانها تستند إلى معطيات العقل والمنطق وضرورات الحياة الاجتماعية في بعض الاحيان.

وإذا كانت التشريعات الوضعية عموماً تشير إلى هذه القيم، فانها تشير اليها بشكل مجرد دون تفسير أو تعريف أو دون الاشارة إلى مضمونها وآثارها، لان التفسير والتعريف وتحديد الآثار المترتبة عليها هو من عمل الفقه والقضاء.

تعريف المبادئ العامة للقانون: لا يمكن حصر المبادئ العامة في اطار حدود معينة، لانها قابلة للخلق وللتطور النسبي بمرور الزمن. ورغم إقرار جميع فقهاء القانون بالأهمية الكبرى لمبادئ القانون العامة باعتبارها تعبر عن حيوية النظام القانوني وأداة من أدوات تنميته وتطويره، فانه لا يوجد اتفاق فقهي على تحديد المقصود منها .

ويذهب رأي الى ان المبدأ العام هو قاعدة القواعد القانونية ،بمعنى قابلته على الانطباق على قواعد قانونية أخرى بحيث تكون الأخيرة تطبيقاً للمبدأ العام، وإذا أخذنا المبدأ العام على هذا المعنى، فإنها يصبح فكرة فنية المقصود منها وضع بناء منطقي متماسك للقواعد القانونية .

وعرفها الفقيه بيسكاتوري بأنها، (مجموعة من المبادئ التي تستخدم في توجيه النظام القانوني، من حيث تطبيقه وتنميته، ولو لم يكن لها دقة القواعد القانونية الوضعية وانضباطها)

ونبه الفقيه ريبير الى ضرورة تحاشي تعريف المبادئ العامة للقانون، وهو يعتقد ان المبادئ العامة يمكن التعرف عليها عندما تقع مخالفة لها ، فلئن كان من الصعب تعريف المبدأ الأساس في احترام الملكية الخاصة ، الا انه يمكن التعرف على المبدأ عند مصادرة الملكية دون مقابل وبطريقة تحكمية.

وعرفها الفقيه الفرنسي اندريه دي لوبادير بأنها(عدد من المبادئ التي لا تظهر مصاغة في نصوص مكتوبة ولكن يعترف بها القضاء باعتبارها واجبة الاتباع من الإدارة وان مخالفتها تمثل انتهاكاً للمشروعية).

اهمية المبادئ العامة للقانون: من الواضح  أن المبـادئ العـامة للقـانون قواعد غير مكتوبة حسب الأصل وان من أنشأها هو القضاء وخاصة قضاء مجلس الدولة الفرنسي وواكبه في ذلك مجلس الدولة المصري الذي أنُشيء عام 1946 على غرار مجلس الدولة الفرنسي، إلا ان الفقه يكاد يجمع على أنها قواعد أساسية وجوهرية لا يمكن ان يخلو منها أي نظام قانوني، بمعنى أنها تكاد تفوق أهميتها الموضوعية أهمية القواعد المكتوبة.

 ولذلك يصفها مفوض الحكومة ليتورنيه بأنها (مبادئ كبرى)، ويرى الفقيه جان ريفيرو انها (تمثل الفلسفة السياسية للأمة).

ويرى جوبتير شوديه ان هذه النظرية تمثل (جرأة مجلس الدولة الفرنسي وقدرته على الخلق والإبداع من اجل الاضطلاع بمهمته وأداء واجبه في حماية الحقوق والحريات).

ويعتقد الفقيه لافريه أن المبادئ العامة للقانون تعالج صمت النصوص القانونية وغموضها وتسد مسد التقنين في القانون المدني والتجاري وتعتمد على المبادئ العامة للعدالة والمساواة.

وعلى النحو تتمثل أهمية المبادئ العامة للقانون بإعتبارها مصدراً من مصادر القانون، في  مجموعة قواعد قانونـية يكشف عنها القضاء من المعتقدات الراسخة في ضمير الامة، وطبيعة النظام القانوني في الدولة وروح التشريعات المختلفة وحكمة التشريع، ومن ثم تعد المبادئ العامة للقانون بمثابة تفسير من جانب القضاء للضمير العام ولإرادة المشرع.

مضمون المبادئ العامة للقانون: المبادئ القانونية، اما ان تكون مكتوبة أو غير مكتوبة .

والمبادئ القانونية غير المكتوبة ، إنما تستقر في ذهن وضمير الجماعة، تمليها العدالة المثلى وهي تستند الى المنطق والعقل والحدس وطبيعة الأشياء وقواعد العدالة والأخلاق ولا تحتاج الى نص يقررها ويمكن ان تستمد منها قواعد قانونية ملزمة يتعين الخضوع لها ، يعمل القاضي على الكشف عنها وتقريرها مستلهماَ اياها من روح الدستور والتشريع ، فيعلنها من خلال احكامه معطياً إياها القوة الإلزامية، ومن ثم يتعين على الجميع احترامها والالتزام بها ، ويعد كل تصرف مخالف لها معيباً بعيب مخالفة القانون.

وكثيرا من مبادئ القانون العامة تحولت الى قواعد قانونية مكتوبة عندما يتبناها المشرع وهو بصدد سن التشريعات المختلفة .

ويتنوع مضمون المبادئ العامة بحسب طبيعة المجال القانوني الذي تعمل فيه، إلا انه يمكن إرجاعها من حيث أساسها وجوهرها حسب احكام القضاء الفرنسي والمصري الى مبدأين أساسيين هما مبدأ الحريــة ومبدأ العدالة:

أولاًــ المبادئ القانونية المشتقة من قيم الحرية: اذا ورد النص في الدستور على احترام الحريات العامة والفردية، فان هذا النص يترتب عليه المبادئ القانون العامة التالية:

الحق في حرية التفكير والضمير، مبدأ حرية التعبير والنشر والنقد، مبدأ حرية الإرادة والمعتقد، مبدأ ان لا تقييد للحريات العامة إلا بقانون، مبدأ احترام الحقوق المكتسبة، مبدأ عدم رجعية القانون, مبدأ لا تكليف بمستحيل مبدأ بطلان الالتزامات المؤبدة، مبدأ العقد شريعة المتعاقدين، مبدأ عدم التعسف في استعمال الحق. مبدأ بطلان التصرفات نتيجة الإكراه. مبدأ عدم جواز الالتزامات المؤبدة، مبدأ ان الأصل براءة الذمة، مبدأ الملكية الخاصة والحرية الفردية مكفولتان في حدود القانون، حرية الفكر والثقافة والبحث عن المعلومات والحصول عليها, مبدأ إتاحة دعوى قضائية لكل من تضررت مصالحه, مبدأ خضوع كل سلطة إدارية للرقابة، ويتفرع عنه مسؤولية اعضاء السلطة التنفيذية امام البرلمان. مبدأ حق الدفاع امام القضاء، مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، مبدأ ان الشعب مصدر السلطات، مبدأ ضرورة سير المرفق العام بانتظام.

ثانياً: المبادئ التي ترجع الى قيم العدالة: يترتب على مبدأ العدالة التي هي غاية كل قانون سواء نص عليها صراحة أو لم ينص المبادئ القانونية العامة التالية:

مبدأ مساواة المواطنين امام القانون, مبدأ عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون, مبدأ ان الغلط الشائع يقوم مقام القانون، مبدأ حق الحياة لكل فرد, مبدأ تغير الأحكام بتغير الأزمان, مبدأ مساواة المواطنين في الانتفاع من المرافق العامة, مبدأ المساواة في تحمل التكاليف والأعباء العامة, مبدأ المساواة بين الجنسين في الوظائف العامة, مبدأ المساواة في الضريبة, مبدأ المساواة في مباشرة الاعمال الاقتصادية , مبدأ المساواة في المعاملة , مبدأ تفوق المعاهدة الدولية على القانون الداخلي.

مصادر المبادئ العامة للقانون: كان للفلسفة الاغريقية ومن ثم الفقه القانوني الروماني دور بارز في تعميم فكرة المبادئ العامة للقانون مثل مبدأ (الافراط في التطبيق الحرفي للقانون اغراق في الظلم ) ومعنى ذلك انه اذا ادى تطبيق القانون حرفيا الى الحرج والعسر والقسوة فيصار الى تطبيقه بشيء من المرونة والرحمة  باستيحاء الحكم من روح القانون لا من مفهومه الحرفي . وكان البريتور الروماني يطور احكام القانون من خلال ما يعرف بالمنشور البريتوري الذي يتضمن المبادئ والقواعد التي سيتبناها اثناء ممارسته لمنصبه القضائي ، وجاء في منشور لبريتور من العصر الذهبي للقانون الروماني وهو العصر العلمي (130ق.م  284م) مانصه ( لن اعتبر صحيحا ماتم تحت الرهبة )  ومعيار الرهبة عند البريتور، هو معيار الشخص الثابت الجنان ، اي ان من شأن الرهبة ان تدخل الروع في قلب القوي ، فلا يحمي البريتور الجبان. واذا كان القانون الروماني قد بدأ قانوناً شكلياً فان دور الارادة بدأ يغزو القانون الرومانى منذ العصر العلمى بانفتاح المجتمع الرومانى على الخارج ودور الأجانب فى الأسواق المالية الرومانية وظهور قانون الشعوب وتأثر الرومان به مع الأجانب وكذلك الدور الرائد والإيجابى الذى قامت به الفلسفة اليونانية فى المجتمع والقانون الرومانى وانتقلت به الى آفاق أكثر إنسانية وجاءت بأحكام وقواعد ومبادئ قانونية وعلى رأسها جميعا، مبدأ دور الإرادة فى إبرام التصرفات القانونية من حيث إنشاء العقد وترتيب الآثار عليه، مبدأ حسن النية، مبدأ الوفاء بالعهد واحترام الكلمة المعطاة " وبفضل هذه الفلسفة فُتحت صفحة جديدة فى القانون الرومانى ليصبح فى النهاية قانوناً عالمياً.

هذه المبادئ التي تكونت وترسخت في الاحكام القضائية بمرور الزمن، جمعت وهذبت من قبل الامبراطور الروماني جستنيان (482 – 565) ميلادية، وعرفت هذه باسم مدونة جستنيان في الفقه الروماني او (مدونة القانون المدني) وهو الاسم المعاصر للمدونة، والتي حفظت القوانين ومبادئ الاحكام القضائية الرومانية والتي اصبحت فيما بعد مصدراً للقواعد القانونية الاساسية في اوربا وخاصة فرنسا والتي انتقلت من خلاله الى القوانين العربية مثل مصر ثم العراق وغالبية البلدان العربية التي تتبع النظام القانوني اللاتيني، وصُدِّر الامبراطور قانونه المدني بهذه العبارة :

(إلى الشبان الراغبين في دراسة القانون : يجب أن يسلح جلالة الإمبراطور بالقانون كما يجب أن يعلو مجده بقوة السلاح، حتى يسود بذلك الحكم الصالح في الحرب والسلم على السواء، وحتى يتبين للناس أن الحاكم... لا تقل عنايته بالعدالة عن عنايته بالنصر على أعدائه).

ولازالت هذه المدونة إلى اليوم مرجعاً مهماً للباحثين والفقهاء والقضاة في انحاء المعمورة خاصة في الدول التي تتبع النظام القانوني اللاتيني بهدف التعرف على أصل كثير من المبادئ والقيم القانونية، وقد تضمنت المدونة مفاهيم اساسية حول العدالة والمساواة والحرية والتعاقد وغيرها، فقد ورد في هذه المدونة على سبيل المثال تعريف العدل بانه (العــدل هو حمل النفس على إيتاء كل ذي حـق حقـه والتزام ذلـك عـلى وجـه الـدوام والاسـتمرار). في نطاق المساواة جاء في مدونة جستنيان مبدأ ( مساواة غير المتساويين ظلم فاحش). 

وفي نطاق العقد جاء في المدونة اشارة الى السبب العقدي  تمثلت بمقولة ( الباعث الكاذب لا اثر له في قيام العقد ).

وفي العصور الحديثة يرجع الفضل في كشف واستنباط المبادئ العامة للقانون الى مجلس الدولة الفرنسي من خلال ما اصدره من احكام منذ انهيار الجمهورية الثالثة وهزيمة فرنسا في الحرب العالمية الاولى وسقوط دستورها، وما رافق ذلك من اعتداء وتجاوز على الحريات العامة، فتدخل مجلس الدولة للذود عنها من خلال نظريته في مبادئ القانون العامة ليحلها محل الدستور، تلك المبادئ التي رأى المجلس انها استقرت في ضمير الجماعة وتبقى قائمة فيه على الرغم من سقوط النظم او الوثائق الدستورية التي تقررها.

ومن الميزات الأساسية للمبادئ العامة للقانون أنها حسب الأصل، لا تستمد قوتها الإلزامية من نص تشريعي مكتوب وعلى هذا النحو فان مجلس الدولة الفرنسي يؤكد في كل مناسبة بان المبادئ العامة للقانون واجبة التطبيق بون حاجة لنص تشريعي يقررها.

وحسب شراح القانون ورائدهم في ذلك  الأستاذ ريفيرو ومن ثم الأستاذ جين في رسالته ( المبادئ العامة والأحكام القضائية والإدارية) فان مجلس الدولة الفرنسي قد لجأ الى اربع طرق وهو يستنبط او يستخلص المبادئ العامة للقانون وهي:

1ـ استنباط المبدأ العام من جوهر النظام القانوني أو من طبيعة الأشياء أو متطلبات العدل والإنصاف والرحمة.

2ـ استنباط المبدأ العام من المعتقدات الراسخة في ضمير الامة.

3ـ استنباط المبدأ العام من روح نصوص قانونية معينة أو من مبادئ كانت سائدة في قوانين ملغية.

4ـ استنباط المبدأ من خلال تعميم نصوص تتعلق بحالات جزئية محددة.

ويرى الفقيه الفرنسي الاستاذ فالين ان مهمة القضاء هي استنباط هذه المبادئ من روح التشريع العام ومن الضمير العام للجماعة.

ويرى الاستاذ سليم بطارسة ان هذه المبادئ تستنبط من روح التشريعات السابقة ومن ضمير الجماعة  والظروف الموضوعية المحيطة.

ويعطي الفقيه جان ريفيرو هذه المبادئ وظيفة سلوكية من حيث قدرة هذه المبادئ على طرح قواعد جديدة أو على الأقل افكار مرشدة جديدة.

ففي قضية (دام بينت) استخلص مجلس الدولة الفرنسي ودون الاستناد الى نص قانوني محدد مبدأ قانونياً عاماً جديداً مفاده انه (لا يجوز فصل عاملة وهي حامل)، وهذا المبدأ يمكن تطبيقه على كل الموظفات.

 ولا شك ان العاملة الحامل تتحمل عبأً اجتماعياً اضافياً هو في النهاية يصب لصالح المجتمع ومن ثم ليس من العدالة بشيء ولا من طبيعة الامور (حماية النسل) فضلاً عن ان ضمير الجماعة لاشك سيتأثر بهذا الفصل في هذا الوقت بالذات (الحمل)، فإن ايجاد مثل هذا المبدأ يعد امراً ضرورياً وحاسماً ولو لم ينص عليه المشرع.

ويصنف جانب من الفقه ومنهم  الفقيه جان ريفيرو المبادئ العامة للقانون حسب مصدرها وكيفية اشتقاقها على النحو التالي:

اولاًــ المبادئ المشتقة من روح الدستور:

وهي المبادئ التي تم اشتقاقها من الدساتير نفسها ومن مقدمات الدساتير ومن الفلسفة السياسية السائدة في عصر ظهورها.

مثال ذلك مبدأ المساواة بين المواطنين، ومنه مساواة الجنسين امام الوظيفة العامة، مبدأ عدم رجعية القوانين والانظمة والقرارات الادارية، مبدأ احترام الحقوق المكتسبة، مبدأ مساواة شهادة الجامعات الحكومية و الجامعات الخاصة من حيث الحقوق والامتيازات والتعيين في الوظيفة العامة، مبدأ عدم جواز تقييد الحريات العامة إلا بقانون،....

ثانياًـ المبادئ القانونية المشتقة من روح القانون المدني والقوانين الاجرائية:

وهي المبادئ التي اشتقها من القانون المدني وقانون اصول المحاكمات والمرافعات وطبقها على قوانين أخرى مثل القانون الاداري وقانون العمل وقانون الوظيفة العامة والتأديب وغيرها.

مثل مبدأ لا تكليف بمستحيل، مبدأ بطلان الالتزامات المؤبدة، مبدأ العقد شريعة المتعاقدين، مبدأ عدم التعسف في استعمال الحق, مبدأ بطلان التصرفات نتيجة الإكراه، مبدأ عدم جواز الالتزامات المؤبدة، مبدأ ان الأصل براءة الذمة.... وحق الدفاع والاستعانة بمحامي امام اللجان التأديبية وحق الموظف بالإطلاع على ملفه الشخصي اثناء التحقيق، وحجية الامر المقضي به، وحياد اللجان التحقيقية ... .

ثالثاًـ المبادئ المستمدة من ضرورة الآمن الاجتماعي واستقرار المعاملات في المجتمع:

مثل نظرية الموظف الفعلي، ونظرية الوضع الظاهر، والغلط الشائع يقوم مقام القانون، ونظرية الظروف الاستثنائية، ومبدأ ضرورة استمرار سير المرافق العامة، ومبدأ كل قرار اداري يقبل الطعن بالإلغاء، ومبدأ ان ليس للوزير ان يرفض سلطته الاساسية، ومبدأ لا يجوز تفويض التفويض .

رابعاًــ المبادئ العامة المستقاة من فكرة العدل والحرية الصدق والعقلانية:

مثل مبدأ حق الحياة لكل فرد, مبدأ تغير الأحكام بتغير الأزمان, مبدأ مساواة المواطنين في الانتفاع من المرافق العامة, مبدأ المساواة في تحمل التكاليف والأعباء العامة, مبدأ المساواة بين الجنسين في الوظائف العامة, مبدأ المساواة في الضريبة، مبدأ التناسب بين الذنب والعقوبة، مبدأ علانية المرافعات القضائية.

فالقوة الذاتية للمبادئ العامة للقانون لا تحتاج لنص وذلك بهدف احترام مبدأ المشروعية، ونرى مجلس الدولة الفرنسي يقرر في أحد أحكامه (ان الطعن لتجاوز السلطة متاح وممكن حتى بدون نص ضد كل قرار إداري وفقاً للمبادئ العامة للقانون وذلك بهدف احترام مبدأ المشروعية)

وقد استطاع مجلس الدولة الفرنسي ان ينشئ هذا المبدأ القانوني العام بأن قام بتعميم حكم هذه النصوص المتفرقة وأعطى لهذا الحكم طابع القاعدة العامة أو المبدأ العام الذي يعمل خارج هذه النصوص ليطبقه على كل قرار يتضمنه طابع الجزاء .

أما الأستاذ فيدل فيرى بشأن المبادئ العامة إن ( المبدأ العام لا ينشأ بطريقتي الابتكار والاختراع، إنما بطريق الاكتشاف بواسطة القاضي ... ويأخذ كمثال مبدأ احترام حقوق الدفاع فهو حس وجهة نظره ( يتولد عن طريق الملاحظة،  من خلال نصوص عديدة تشريعية ولائحية تقرر حقوق الدفاع في فروض محددة. يجب ان نفترض ان هذه النصوص ليست سوى تطبيق على هذه الحالة أو تلك لمبدأ عام يمثل مصدرها جميعا ) . ويرى د. محمد رفعت عبد الوهاب انه ( يتمثل هذا الأسلوب في تعميم أحد الحلول أو أحد القواعد الجزئية التي قررتها نصوص متفرقة في حالات خاصة).

القيمة القانونية للمبادئ العامة للقانون: هناك ثلاثة اتجاهات بشأن القيمة القانونية للمبادئ العامة للقانون:

الاتجاه الأول: ويذهب إلى ان للمبادئ العامة للقانون قيمة القانون العادي ، وكان هذا الرأي سائداً في فرنسا قبل عام 1958، ومن ثم فان على القاضي ان يحترم هذه المبادئ كاحترامه للقانون العادي، ومن الفقهاء الذين ايدوا هذا الرأي الفقيه الفرنسي المعروف اندريه دي لوبادير، ويترتب على هذا الاتجاه نتيجة مفادها ان وضع قيد أو استثناء على المبدأ العام هو من اختصاص المشرع وحده، وتطبيقاً لذلك قرر مجلس الدولة الفرنسي في حكم دام دافيد: ( ان من حق المشرع وحده ان يحدد أو يوسع أو يضيق من نطاق المبدأ العام)، ويصرح مفوض الحكومة شينو بأن المبادئ العامة للقانون المعروفة على امتداد الاقليم الفرنسي لها قيمة تشريعية.

الاتجاه الثاني: ويذهب ان للمبادئ القانونية قيمة اعلى من الانظمة وادنى من القوانين، وحجة هذا الاتجاه ان القاضي لايملك حق تقدير الملائمة بين القانون والمبدأ العام، حيث سلطة القاضي بشأن القوانين الصادرة من البرلمان هي مجرد سلطة تفسيرية دون أن يملك حق تقدير مشروعيتها. ومن الفقهاء الذين يؤيدون هذا الرأي الفقيه شابو وبعض الفقهاء المصريين.

الاتجاه الثالث: ويذهب إلى ان للمبادئ العامة للقانون مرتبة القواعد الدستورية على الاقل ، وهي بذلك تتفوق على قواعد القانون العادي. وساد هذا الاتجاه بعد صدور دستور عام 1958.

واغلب احكام مجلس الدولة الفرنسي تذهب إلى هذا الاتجاه في الوقت الحاضر، ومن اولى القضايا التي غلب فيها مجلس الدولة الفرنسي المبادئ العامة للقانون على التشريعات العادية قرار مجلس الدولة الفرنسي بتاريخ 18 فبراير 1950   قضية وزير الزراعة ضد السيدة لاموت، بموجب هذا القرار قضى مجلس الدولة بأنه يوجد مبدأ قانوني عام مفاده أن كل قرار صادر عن الإدارة يمكن أن يكون موضوع طعن من أجل تجاوز السلطة حتى و لو لم يكن هناك نص بذلك. وحجة القاضي في ذلك ان المبادئ العامة للقانون تشتق من مقدمات الدساتير  ومن اعلانات الحقوق وهي تشريعات اعلى من التشريعات الصادرة عن السلطة التشريعية.

 وملخص القضية، ان قانون 17 اب 1940 أعطى لمحافظي المحافظات سلطة منح المستثمرات الزراعية المهجورة منذ أكثر من عامين للغير من أجل استثمارها فورا، و تطبيقا لهذا القانون صدر مرّتان قرار من المحافظ بمنح أراضي السيدة لاموت و لكن مجلس الدولة ألغاهما ؛ و لكن في تلك الفترة صدر قانون 23 ايار 1943 - أساسا في مواجهة موقف القضاة - و نص بأن منح الأراضي في ظل هذا القانون لا يمكن أن يخضع لأيّ طعن إداري أو قضائي، و على أساسه أصدر المحافظ قرارا جديدا بمنح أراضي السيدة لاموت من جديد. و كان من المفروض أن يصرح مجلس الدولة في هذه المرة عدم قبول الطعن، و لكنه عوض ذلك اتخذ موقفا جريئا و ضروريا لحماية الأفراد من تعسف الإدارة و صرح بأنه يوجد مبدأ قانوني عام مفاده أن كل قرار إداري يمكن أن يكون محل طعن من أجل تجاوز السلطة ولو بدون نص يقضي بذلك. و قد تأكد هذا الإجتهاد القضائي فيما بعد عدة مرات، و تطبيقا له أصبح من المستحيل على السلطة التنفيذية أن تمنع الطعن في قراراتها من أجل تجاوز السلطة .

وفي قرار مهم في لمجلس شورى الدولة اللبناني تقرر فيه اقرار الحق لصاحبته رغم مرور مهلة المراجعة المقررة قانوناً وقد استند المجلس في قراره الى مبدأ مساواة المواطنين امام القانون ، باعتبار ان هذا المجلس قد أصدر عدة قرارات عائدة لموظفي هم في وضع مشابه لوضعها، حسبما جاء في قرار مجلس شورى الدولة اللبناني رقم  152 في27/5/1992

وملخص القضية ان المستدعية الأكاديمية اللبنانية وتخرجت منها حاملة شهادة جامعية، وانه وعرضت شهادتها على لجنة المعادلات التي قررت أنَّ شهادتها هي شهادة جامعية رسمية، وانه كان على وزارة التربية أنَّ تصنفها برتبة وراتب أستاذ تعليم ثانوي في الدرجة الاخيرة ، وجاء في حيثيات القرار (أن رفض الإدارة تصحيح وضعها مخالف لنص المادة 44 المشار اليها ومشوب بعيب تجاوز حد السلطة فيقتضي إبطال قرار الرفض وإعلان حقها بالتصنيف وفاقاً لأحكام هذه المادة. 2- أنَّه يقتضي تصحيح وضع المستدعية على أساس مبدأ المساواة، باعتبار ان هذا المجلس قد أصدر عدة قرارات عائدة لموظفي هم في وضع مشابه لوضعها، وأن مبدأ المساواة واجب التطبيق حتى بالنسبة لمن انقضت مهل المراجعة بحقهم.)

ومن القرات المهمة لمجلس شورى الدولة اللبناني ، ما جاء بصدد اغفال القانون الجديد الاشارة الى الاحكام الانتقالية بالنسبة للحالات  التي اكتملت في ظل القانون القديم الا ان الاجراءات الادارية لم تكتمل الا بعد نفاذ القانون الجديد في قراره رقم 129 لسنة 1986، وملخص القضية:

ان المستدعي حصل عل على شهادة التحاليل الطبية بموجب قانون مزاولة المهن الطبية الصادر بتاريخ 26/12/1946، وحينما باشر بتقديم طلب للحصول على اجازة فتح مختبر تحليل صدر قانون جديد في 17/1/1979 يضع شروطاً جديدة غير متوفرة في المستدعي، فرفضت وزارة الصحة منحه الرخصة.

وجاء في القرار (وبما ان عدم لحظ قانون 17/1/1979 صراحة، احكاماً انتقالية للحالات المماثلة التي يمكن ان تنشأ بسبب صدورها لا يعني بشكل اكيد ان المشترع اراد عن قصد عدم رعاية تلك الحالات بأحكام انتقالية خاصة تسمح بتحقيق النتائج المترتبة عنها، لا بل ان العكس هو المفترض، أي ان المشترع يقر ضمناً اعتماد مثل هذه الاحكام، لانه لا يعقل ان يطلب مثلاً من طالب قضى السنوات الطوال في دراسة الطب وفق منهاج يقرره قانون معين ويولي من يستكمله حق الاشتراك بامتحان الكولوكيوم لممارسة مهنة الطب، ان يقضي مجدداً سنوات عديدة في دراسة الطب وفق منهاج جديد لمجرد صدور قانون جديد يفرض هذا المنهاج كشرط للاشتراك في امتحان الكولوكيوم....... فانه يكون من حقه وفقاً للمبدأ الآنف الذكر ان يستفيد من النتائج المترتبة عن هذا الوضع والمرتبطة به ارتباطاً وثيقاً والمتمثلة بالحصول على اجازة فتح مختبر طبي وفق احكام قانون سنة 1946 وفي الحدود التي يفرضها هذا القانون وبما ان كل ما ادلى به خلاف ذلك يكون في غير محله القانوني ويقتضي معه رد جميع الاسباب والمطالب الزائدة والمخالفة,..... يقرر المجلس بالاجماع .... ابطال قرار وزارة الصحة الضمني موضوع المراجعة، والقول بحق المستدعي استناداً لما تقدم بالحصول على اجازة فتح مختبر طبي وفاقاً لاحكام قانون سنة 1946 وفي الحدود التي يفرضها هذا القانون ورد المطالب الزائدة والمخالفة).

.................

المصادر:

ـ  د. مالك دوهان الحسن،المدخل لدراسة القانون،ج1، بغداد.

ـ د. عبد الحي حجازي، المدخل لدراسة العلوم القانونية ،ج1، القانون.

ـ  د. عبد المجيد الحكيم ، الوسيط  في نظرية العقد ،ج1، في انعقاد العقد،1968.

ـ  د. سمير تناغو، النظرية العامة للقانون،1973.

ـ د. توفيق حسن فرج، المدخل للعلوم القانونية ،1976 .

ـ د. محمد أحمد رفعت ،المبادئ العامة للقانون كمصدر للمشروعية في القانون الإداري،القاهرة،الدار الجامعية للطباعة والنشر.

 ـ  د. عبد المجيد الحكيم ، الوسيط  في نظرية العقد ،ج1، في انعقاد العقد،1968، 18ـ  ـ د. سمير تناغو، النظرية العامة للقانون،1973.

ـ د. توفيق حسن فرج، المدخل للعلوم القانونية، 1976.

ـ محمد رفعت عبد الوهاب، المبادئ العامة للقانون كمصدر للمشروعية، الدار الجامعية، بيروت، 1992.

ـ محمود حافظ، القضاء الاداري، ط7، دار النهضة العربية، القاهرة، 1979.

ـ مدونة جوستنيان في الفقه الروماني، ترجمة عبد العزيز فهمي، بيروت، 1946.

ـ سليمان سليم بطارسة، المبادئ العامة في القانون وتطبيقاتها في فرنسا والاردن، مجلة علوم الشريعة والقانون، المجلد 33، العدد1، 2006.

ـ مجلة القضاء الاداري اللبناني العدد الرابع سنة 1989.

ـ مجلة القضاء الاداري اللبناني  العدد السادس سنة 1991 و1992.

ـ مجلة القضاء الاداري اللبناني العدد الرابع سنة 1989.

ـ مجلة القضاء الاداري اللبناني العدد الثالث سنة 1987 - 1988.

موقع محامي سوريا، الأحكام والقرارات الإدارية الكبرى في القضاء الفرنسي، الرابط:

http://www.damascusbar.org/AlMuntada/showthread.php?t=16140

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* النائب السابق لرئيس هيئة النزاهة

17/7/2014

الشكلية والموضوعية في القانون


الشكلية والموضوعية في القانون



 

فارس حامد عبد الكريم*

لكل تشريع حكمة تفرضها طبيعة الظروف الاجتماعية او الاقتصادية او السياسية السائدة وقت سن التشريع ، الا ان الحياة الاجتماعية بكل عناصرها وظروفها لا تثبت على حال بل انها تتطور حتماً وتتغير الأحوال الاقتصادية والسياسية وتتحرك في كل الاتجاهات الممكنة سواء كانت متوقعة او غير متوقعة، وهنا يثار التساؤل التاريخي الخالد، هل يبقى القانون جامداً في مكانه ام انه يتحرك مع حركة الحياة ومتطلباتها المتجددة دوماً اذا لم يبادر المشرع الى تغيير او تعديل القانون لسبب او لآخر ؟

في عصور تطور القانون الروماني القديم، ذهب فلاسفة وفقهاء القانون ان الفيصل في ديمومة النص في العمل او تعطيله ،تشريعياً او عملياً من قبل القاضي (البريتور)، هو حكمة التشريع ولهذا وضعوا قاعدة ( ان التشريع متى توقفت حكمته توقف حكمه)، وهم في ذلك على حق فتطبيق القانون ليس مسألة شكلية فحسب وإنما هو مسألة موضوعية في جوهرها، لان العدالة لا تستمد وجودها من مجرد تطبيقات شكلية.

وكانت وجهة النظر القديمة ترى في علم المنطق، باعتباره علم قياس المعقولات، ووسيلته القياس المنطقي، الحل الأمثل لتطبيق القانون بعدالة ومعقولية وحيادية.

فيما يرى آخرون من فقهاء القانون  المحدثين ان القانون علـم وفـن وينبغي ان يُعبر عن غايات متحركة ومتجددة في العالم المعاصر، وانه لا يمكن الوصول لأحكام جديدة تساير التطور الإنساني عن طريق توحيد الحلول وفقا للنموذج المنطقي.

وكان ارسطو قد عبر عن ذلك بطريقة أخرى حين وضع أسس علم المنطق، عندما اقر بصعوبة تطبيق التشريعات المجردة على الحالات الواقعية حينما اخذ يتصدى للحالات المستعصية وهي تلك الحالات التي يؤدي تطبيق القاعدة العامة عليها الى نتائج ظالمة فنبه الى مصحح لجمود العدل القانوني الا وهو العدل الخاص او الإنصاف بغية إصلاح ما هو ظالم وغير معقول.

فالقانون عـِلم عقلي ، كما يراه اتجاه واسع من فقهاء القانون ، يتضمن مجموعة من المبادئ المنسقة تنسيقا منطقيا ، ويُستنتج منها او يترتب عليها قواعد قانونية لا يتيسر الوصول إليها في الغالب إلا من خلال عمليات معقدة كالتحليل والتركيب والتكييف والاستنتاج والاستنباط.

وفي ضوء ذلك فان وجود قواعد القانون واستخدام المنطق في تفسيرها لا يكفيان لوحدهما لإعطاء حلول ملائمة مع تطورات الحياة الآنية والمستقبلية ، وإنما ينبغي ان يكون للقاضي دور في الملائمة بين حكمة التشريع  والواقع ، وكما قال الرومان قديما ( ان التشريع متى توقفت حكمته توقف حكمه )

تعود جذور علم المنطق الى ارسطو ، حيث اعتبره فنا وأداة في خدمة المعرفة ، فلم تشغل رواد الفلسفة اليونانية الأوائل المسائل القانونية بوجه خاص، إلا ان مفهوم القانون فلسفياً بدأ يتبلور نسبياً لدى المدرسة الفيثاغورسية ، فالعدالة عندهم تقوم على معيار عددي حسابي ، فهي علاقة حسابية وعملية مساواة ، ومن ثم لزم الثواب والعقاب على أساس العدل التبادلي والتناسب بين الفعل والمعاملة التي يلقاها، وهذه فكرة تعود بجذورها الى البابليين، وربما كانت هذه الفكرة هي التي قادت او تطورت الى فكرة القياس المنطقي.

وفي وقت لاحق أعلن كلسن زعيم الوضعية القانونية ان ( لا شأن للقانون بعلم الحياة ) ، وان نظرية القانون يجب ان تتناول القانون كما هو كائن لا كما ينبغي أن يكون ، واستبعد فكرة العدالة من مجال القانون، بداعي ان الحكم على القانون بالعدالة او عدم العدالة يتطلب معايير لا تخضع للمعرفة العلمية ودعا الى نظرية محضة في القانون ، ومن ثم هاجم نظرية القانون الطبيعي واصفاً اياها بانها حصيلة استنتاج غير صحيح ، وبذلك استبعد كلسن وأنصاره الحقائق والقيم المطلقة من المنهج القانوني،

 ويترتب على هذه النظرية ، ان كل سلوك إنما يحدده القانون بصورة مباشرة او غير مباشرة ، وعندما لا يكون عمل الفرد ممنوعا بِسُنة قانونية فهو مسموح به قانونا بصورة غير مباشرة ، وبتعبير آخر، حسب وجهة النظر هذه ، ان القانون لا يمكن ان يحتوي على ثغرات، ولا يمكن ان يتمتع القاضي بأية سلطات تقديرية .

أدى كل ذلك ، وخاصة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين  ، الى نتائج مجحفة تأباها العدالة الحقة ، فحق الملكية مطلق ومن يستخدم حقه لا يمكن ان يعتبر مسيئا تحت أية ظروف ، وما بني على باطل فهو باطل وان منطق البطلان هذا مطلق لا يقبل تعديلاً او انحرافاً ، فعقد الزواج الباطل لا يرتب أية آثار او حقوق للزوجة المسكينة او الأولاد ، وعقد العمل الباطل يلقي العامل في الشارع دون أية حقوق ، ولا مسؤولية بلا خطأ ولو مات العامل وهو يقدم خدماته لصاحب العمل ، ذلك ان المنطق يُبرز الشكل  ويُغفل الواقع .

ويُعطي استخدام القياس المنطقي في مجال علم القانون بطريقة آلية ، نتائج جامدة وحلولا منسقة ، ثابتة ، متكررة ، قابلة للتوقع مسبقا ،كما ان إعمال القياس في حد ذاته محفوف بالمخاطر وفي مقدمتها التسليم بإطلاق المقدمة الكبرى وافتراض صلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان ، في حين ان الحقائق نسبية .

  ومن تطبيقات الاتجاهات الشكلية في تفسير القانون ، نورد الواقعتين التاليتين :

قضية ارنولد الطحان : عرضت هذه القضية على المحكمة العليا في بروسيا سنة 1779 ، وتتلخص وقائعها ، بان ارنولد كان رجلا من عامة الشعب ، يدير طاحونة على سفح تل ، ويقتات من ماتدره عليه من عوائد هو وعائلته ، مستعيناً بالمياه المنحدرة من جدول يمر في ارض في أعلى التل مملوكة لإقطاعي ، فرأى الإقطاعي ذات يوم ان يحفر بركة داخل أرضه لتربية الأسماك، فاحتجز فيها مياه الجدول ، فتوقفت الطاحونة عن العمل وساءت أحوال ارنولد ، فرفع دعوى على جاره لمنعه من حجز الماء ، لكن الإقطاعي استمر في تعنته زاعماً انه يستخدم ملكه ، فالماء إنما يجري في أرضه ، وأيدته المحكمة العليا ، رافضة دعوى الطحان ، قائلة ان مالك الأرض يحوز ما بداخلها من ماء ، ومن يستعمل حقه لا يعتبر مخطئا ولا يكون بالنتيجة  قد اضر بالغير .

وهكذا يبدو ان الظلم يمكن ان يتحقق بطريقة تأباها النفوس،ولو ان تطبيق النصوص كان تم بطريقة صحيحة .  

قضية الرئيس روزفلت : أصدرت بعض الولايات الأمريكية تشريعات إصلاحية لحماية العمال من تحكم أصحاب رؤوس الأموال الذين كانوا يفرضون شروط مجحفة بحق العمال عند تشغيلهم ويدفعون لهم أجور بائسة ويرغمونهم على العمل في ظل أوضاع مزرية للغاية ، فأصرت المحكمة الأمريكية العليا منذ عام 1905 الى عام 1936 ، على اعتبار تلك التشريعات غير دستورية بدعوى مخالفتها لمبدأ حرية التعاقد ومبدأ العقد شريعة المتعاقدين ، ولما اشتدت الأزمة الاقتصادية العالمية منذ سنة 1929 الى سنة 1932 ، وكانت شديدة الوطأة على عامة المجتمع ، لجأ الرئيس روزفلت الى استصدار عدة قوانين لتنفيذ بعض الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية ، إلا ان قضاة المحكمة العليا حكموا بعدم دستورية هذه القوانين ، فضاق روزفلت ذرعا بأحكام أولئك القضاة، ونصحهم بمسايرة روح العصر ، والتف الشعب الأمريكي حول روزفلت داعماُ موقفه ازاء أولئك القضاة ، إلا أنهم استمروا في مواقفهم المتشددة ، فلجأ روزفلت الى تهديدهم بإعادة تشكل المحكمة اذا استمروا في تعنتهم ، واشتدت الأزمة حينما سَخر أصحاب رؤوس الأموال إمكانياتهم لمهاجمته من خلال مختلف الصحف الأمريكية بعد ان اتهموه بالاستبداد ومخالفة أسس الحياة الديمقراطية ، إلا ان المحكمة اضطرت أخيرا الى ان تتراجع عن أحكامها السابقة وقضت بدستورية قوانين الإصلاح .وهكذا كان القضاء الأمريكي ، الذي ينتمي الى المدرسة الشكلية في القانون ،سببا في تأخر الإصلاح الاجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية، قرابة ثلث قرن من الزمان .

دور الاجتهاد القضائي في تطوير النظام القانوني

للقضاء  دور متميز  في الحياة القانونية ، وهذا الدور متميز عن مجرد إنشاء القواعد العامة المجردة الذي هو من عمل المشرع لان القاضي هو من يضفي الفعالية من الناحية العملية على تلك القواعد و يجعلها ملائمة للواقع ومن أدواته في ذلك قواعد التفسير، المبادئ العامة للقانون ، المعيار  القانوني ، مبادئ العدالة وهو يكاد  يقترب من عمل المشرع من خلال الأداتين الأخيرتين فهو الذي  يعين مضمونها عند نظره في قضية معروضة عليه .

وهناك امثلة كثيرة عن اجتهادات المحاكم التي استقرت واصبحت كالقاعدة القانونية سواء بسواء ، فقد اجتهد القضاء الفرنسي وقرر ان البطلان الذي يشوب بيع ملك الغير هو بطلان نسبي ، فاستقر هذا الاتجاه واتبعته جميع المحاكم ،رغم ان المادة(1599) مدني فرنسي لم تنص على أكثر من القول على ان بيع ملك الغير باطل ولم تحدد  هل هو بطلان مطلق ام بطلان نسبي ، وبديهي ان يترتب على هذا الاجتهاد خلق مراكز قانونية جديدة لأطراف العلاقة القانونية في بيع ملك الغير لم يكن النص قد تضمنها لا صراحة ولا ضمناً .

وأخذ القضاء الفرنسي بنظرية الإثراء دون سبب رغم انه لا يوجد مبدأ عام في القانون الفرنسي يقرر هذه النظرية ، وكانت حجته في ذلك ان  هناك نصوص تشريعية وردت بشأن بعض حالات الإثراء دون سبب  ، كالفضالة ودفع غير المستحق ونحوهما ، فأعتبرها القضاء الفرنسي ليست سوى تطبيقات متفرقة لهذا المبدأ وردت على سبيل المثال لا الحصر فأدخل المبدأ كله جملة وتفصيلا الى النظام القانوني الفرنسي باجتهاده فأصبحت النظرية اليوم كأنها القانون المسنون لا يستطيع احد القول ان القانون الفرنسي لا يأخذ بها .

ومن الأمثلة على اثر تغير المبادئ والمثُل الاجتماعية على الاجتهاد القضائي ، إقرار نظام التعسف في استعمال الحق دون نص خاص ، حيث ان القانون الفرنسي والقانون المدني المصري القديم لم يتضمنا نصاً خاصاً بذلك ، وكان ذلك بدافع النظرة التقديسية الى حق الملكية والحقوق الفردية ، حيث عرف حق الملكية فيهما بأنه ( الحق للمالك في الانتفاع بما يملكه والتصرف فيه بطريقة مطلقة ) .

الا ان النظرة الاجتماعية للحق ومنه حق الملكية تغيرت بمرور الوقت وأصبح ينظر للحقوق على ان لها وظيفة اجتماعية تؤديها في إطار عموم مصالح المجتمع ،فظهرت اتجاهات فكرية تنادي بضرورة الحد  من اطلاق الحقوق وتقييدها بواجب عدم التعسف في استعمالها .

تأثر القضاء الفرنسي والمصري بهذه النظرة المتطورة للحقوق ، فأقر مبدأ نسبية الحقوق وقيدها بواجب عدم التعسف في استعمال الحق ،واعتبر من يتعسف في استعمال حقه كمن يرتكب عملا غير مشروع ويكون مسؤولا عن الأضرار التي تلحق بالغير جراء ذلك التعسف .

ومن جانب آخر ، فان اعتماد القضاء الانكليزي على المعايير القانونية أتاح له تطوير الأحكام القضائية التي كانت غالبا ما تتقيد بالأعراف القضائية ، ومنها معيار المعقولية ، ومفاده ان تفسير القوانين والأعراف وتكييف الوقائع ينبغي ان يكون في النهاية منسجماً مع مقتضيات العقل والفهم الصحيح للأمور ، وبتطبيق هذا المعيار على الشروط العقدية التي  اختل توازنها بسبب ما طرأ من ظروف جديدة لم تكن بالحسبان عند التعاقد ، يتبين ما يلي : ان تلك الشروط تقوم في الأصل على مصلحة الدائن والمدين معاً ، الا ان تطبيق معيار المعقولية ، يكشف عن وجود مصلحة ثالثة، هي مصلحة الجماعة ، التي يهمها ان ان تنفذ هذه الشروط ، بشرط ان لا يترتب على تنفيذها إفلاس مدينين ( تجار ) معقولين ، إلا انهم كانوا سيء الحظ بسبب ظروف أجنبية لا دخل لإرادتهم في تحققها . فحكم  القضاء الانكليزي بفسخ مثل هذا العقد حيث ثبت لديه ان المدين لم يكن مخطئاً ، وان التنفيذ قد أصبح مرهقاً بشكل لو أمكن لرجل عاقل ان يتنبأ به لما تعاقد.

ومن الجدير بالذكر ان قانون حمورابي (حوالي القرن العشرين قبل الميلاد) كان قد اعتمد مفهوم السبب الأجنبي الذي يعفي المدين من تنفيذ التزامه ، فالمادة (48) منه تقرر إعفاء المزارع الذي يهلك زرعه بفعل الفيضان من تقديم حبوب إلى دائنه في ذلك العام ويعفى من الفوائد الخاصة بتلك السنة .

************

 

 استاذ جامعي ـ النائب السابق لرئيس هيئة النزاهة*

 

 

الحقوق المكتسبة والتقاعد من وجهة نظر شريعة حمورابي والقضاء المصري


الحقوق المكتسبة والتقاعد من وجهة نظر شريعة حمورابي والقضاء المصري



فارس حامد عبد الكريم

التقاعد حق مكتسب في جميع قوانين العالم ... ولم نسمع يوماً حقاً وصدقاً ان دولة ما قد الغت رواتب متقاعديها سواء من عموم الموظفين او من الموظفين ذوي الدرجات الخاصة، وعلى هذا يكون الغاء تقاعد الدرجات الخاصة اختراع عراقي بإمتياز... دون الالتفات إلى أية نتائج اجتماعية وأسرية وحتى وطنية مترتبة على ذلك...

وإذا كان العراقيون الاوائل قد اخترعوا القانون لأول مرة في تاريخ البشرية متمثلاً في وثيقة اصلاحات اوركاجينو وقانون اورنمو وقانون لبت عشتار واخيراً شريعة حمورابي .. هذه الشرائع التي اذهلت العالم بسعيها لتحقيق العدالة بين البشر كما نص عليها صراحة في شريعة حمورابي ... فإننا نقول ... أن الحمد لله إن هؤلاء العراقيون القدماء لم يكونوا من احزاب الإسلام السياسي لأنهم لو كانوا كذلك لغيروا مجرى التاريخ القانوني لأغراض انتخابية وجعلوا من رجعية القانون على الماضي والحقوق المكتسبة اصلاً بدلاً من أن يكون استثناءاً كما هو الحال في جميع قوانين العالم اليوم وقد سبقتهم في ذلك الشريعة الاسلامية الغراء كما سيتبين لنا لاحقاً...

اضافة لما تقدم ، نؤكد ان الغاء النصوص القانونية التي رتبت حقوقا تقاعدية للمتقاعدين و للمدعي ، قد خالف حزمة من المواد الدستورية وكما يلي :

ـــ  المادة (2):  ج ـ لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع الحقوق والحريات الاساسية الواردة في هذا الدستور.

ـــ  المادة (5) من الدستور العراقي النافذ التي نصت ( السيادة للقانون ، والشعب مصدر السلطات ...........).

ــ  المادة  ( 23): أولاً :ـ الملكية الخاصة مصونةٌ، ويحق للمالك الانتفاع بها واستغلالها والتصرف بها، في حدود القانون. ثانياً :ـ لا يجوز نزع الملكية إلا لأغراض المنفعة العامة مقابل تعويضٍ عادل، وينظم ذلك بقانون.

ـــ المادة (19/ تاسعا) : من الدستور النافذ والتي تنص (ليس للقوانين اثر رجعي ما لم يُنص على خلاف ذلك ، ولا يشمل هذا الاستثناء قوانين الضرائب والرسوم ) .

ـــ  المادة (30): أولاً :ـ تكفل الدولة للفرد وللأسرة ـ وبخاصة الطفل والمرأة  ـ الضمان الاجتماعي والصحي، والمقومات الأساسية للعيش في حياةٍ حرةٍ كريمة، تؤمن لهم الدخل المناسب، والسكن الملائم.
ثانياً :ـ تكفل الدولة الضمان الاجتماعي والصحي للعراقيين في حال الشيخوخة أو المرض أو العجز عن العمل أو التشرد أو اليتم أو البطالة، وتعمل على وقايتهم من الجهل والخوف والفاقة، وتوفر لهم السكن والمناهج الخاصة لتأهيلهم والعناية بهم ، وينظم ذلك بقانون .

ـــــ  المادة (37):  أولاً :ـ أ ـ حرية الإنسان وكرامته مصونةٌ.

 وعلى التفصيل الاتي:

اولاً: ان قانون التقاعد قد خرق نص  المادة (2/ج) من الدستور التي تنص على انه ( لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع الحقوق والحريات الاساسية الواردة في هذا الدستور). ــ  ونص المادة  ( 23) من الدستور التي نصت على انه (أولاً :ـ الملكية الخاصة مصونةٌ، ويحق للمالك الانتفاع بها واستغلالها والتصرف بها، في حدود القانون. ثانياً :ـ لا يجوز نزع الملكية إلا لأغراض المنفعة العامة مقابل تعويضٍ عادل، وينظم ذلك بقانون).

وتتمثل اوجه الخرق الدستوري بما يأتي:

أ: ان القانون المشار اليه يتعارض مع الحقوق الاساسية الواردة في هذا الدستور: ذلك  ان التقاعد حق عيني وشخصي في ذات الوقت، فهو حق عيني من جانب لان المتقاعد قد كسب حق ملكية على الراتب التقاعدي وفق الشروط القانونية وقت كسبه، وهو حق شخصي لانه عبارة عن دين ناشئ في ذمة الدولة لصالح الدائن وهو المتقاعد نتيجة للاستقطاعات التقاعدية من راتبه.

وعلى سبيل الاستئناس نعرض لمحكمتكم الموقرة ماأكدته المحكمة الدستورية العليا في مصر باعتبار الراتب التقاعدي (حق عيني وشخصي) حيث قضت في الحكم الصادر فى القضية رقم 16 لسنة 15 قضائية دستورية جلسة 14/1/1995 والمنشور بالجريدة الرسمية(المصرية)  رقم (6) لسنة 1995 بتاريخ 9/2/1995. بعدم دستورية الفقرة (1) من المادة(40) من قانون التأمين الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975، وذلك فيما نصت عليه من وقف صرف المعاش فى حالة قيام صاحب المعاش بالعمل بإحدى الجهات الخارجة عن مجال تطبيق القانون لوجود نظام بديل مقرر وفقاً للقانون وذلك حتى تاريخ انتهاء خدمته لديها أو بلوغه السن المقررة لمخالفة ذلك لأحكام المادة (7، 12، 13، 62، 122) من الدستور والتي تكفل مضمونها إلتزام الدولة بكفالة الخدمات التأمينية لمواطنيها وعدم إخلالها بالملكية الخاصة التى ينصرف مدلولها على الحقوق الشخصية والعينية وهو الحق فى المعاش وهما ينشأن أصلاً من علاقتهم بجهات عملهم الأصلية.

 كما قضـت هذه المحكمـة بحكمها الصـادر فى القضيـة رقم 52 لسـنة 18 قضائية دستورية، جلسة 7/6/1997، والمنشور بالجريدة الرسـمية (المصرية)  رقـم (25) لسـنة 1997 بتاريخ 19/6/1997 

بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 40 من القانون رقم 79 لسنة 1975 بشأن التأمين الاجتماعي بالنسبة للمخاطبين بها فيما تضمنته من حرمانهم من حق الجمع بين المعاش والمرتب لمخالفـة ذلك لأحكام المـواد (7، 12، 13، 34، 40، 62 ) من الدستور.

ب . ان القانون المشار اليه يتعارض مع الحريات الاساسية الواردة في هذا الدستور:

من المتفق عليه في اطار المبادئ القانونية العامة التي اكدها مجلس الدولة الفرنسي في الكثير من احكامه، ان هذه المبادئ ترجع الى اصلين هما الحرية والعدالة، ومن المبادئ القانونية المشتقة من حق الحرية الدستوري دون حاجة للنص عليها: مبدأ عدم رجعية القانون ومبدأ احترام الحقوق المكتسبة.

ومن احكام احكام المحكمة الدستورية العليا المصرية بصدد احترام الحقوق المكتسبة في الدعوى رقم 195 لسنة 20 قضائية، ما نصه على إنه (تسري القاعدة القانونية اعتباراً من تاريخ العمل بها على الوقائع التي تتم في ظلها وحتى إلغائها، فإذا حلت محل القاعدة القديمة قاعدة قانونية أخرى، فإن القاعدة الجديدة تسري من الوقت المحدد لنفاذها، ويقف سريان القاعدة القديمة من تاريخ إلغائها، وبذلك يتحدد النطاق الزمني لكل من القاعدتين، وتظل المراكز القانونية التي اكتمل تكوينها وترتبت آثارها في ظل القانون القديم، خاضعة لحكمه وحده).

ثانياً: ان قانون التقاعد قد خرق نص المادة (5) من الدستور العراقي النافذ التي نصت ( السيادة للقانون ، والشعب مصدر السلطات ...........).

فقد ذهب القضاء الدستوري المصري في حكم المحكمة الدستورية في مصر، رقم 131، سنة قضائية 22، في 7 يوليو 2002،

إلى أن الأثر الرجعي للقوانين إذا امتد إلى إلغاء الحقوق المكتسبة فإن هذا الأثر يتحول إلى أداة لإهدار قوة القوانين السابقة ويتعارض مع مبدأ سيادة القانون ومبدأ خضوع الدولة للقانون، فقد جاء حكم للمحكمة الدستورية في مصر ما نصه: (حيث أن الحكم الموضوعي الذي تضمنه هذا النص هو إنهاء خدمة الأساتذة المتفرغين الذين جاوزوا سن السبعين وقت العمل بالقانون 82 لسنة  2000 بعد أن كان قد اكتمل مركزهم القانوني كأساتذة متفرغين قبل العمل به. وحيث أن النعي على هذا الحكم الموضوعي بمخالفته للدستور هو نعى صحيح، ذلك أن هذا الحكم قد وقع في حالة المخالفة الدستورية من وجهين متساندين، الأول: هو أن النطاق الذي يمكن أن يرتد إليه الأثر الرجعى للقانون، هو ذلك الذي يعدل فيه التشريع من مراكز قانونية لم تتكامل حلقاتها، وبالتالي لم تبلغ غايتها النهائية متمثلة في حقوق تم اكتسابها وصار يحتج بها تسانداً إلى أحكام قانونية كانت نافذة، إذ في هذا النطاق يبقى المركز القانوني قابلاً للتدخل التشريعي، تدخلاً قد يزيد أو يزيل من آمال يبنى عليها صاحب المركز توقعاته، فإذا تقرر الأثر الرجعى في غير هذا النطاق، وامتد إلى إلغاء حقوق تم اكتسابها فعلاً وصارت لصيقة بأصحابها، وفقاً لأحكام قانونية كفلت حمايتها والاحتجاج بها في مواجهة الكافة، كأثر لنفاذ هذه الأحكام، فإن الأثر الرجعى للقانون يكون بذلك قد تحول إلى أداة لإهدار قوة القوانين السابقة ومكانتها من الاحترام الذي يجب كفالته طوال الفترة التي كانت نافذة فيها وهو الأمر الذي يتصادم مع أحكام المادتين ) 64 و65 ( من الدستور اللتين تنصان على أن "سيادة القانون أساس الحكم في الدولة " وأن ) تخضع الدولة للقانون). )

تُؤكد بداية هذا النص الدستوري على احترام القانون النافذ والالتزام بما ترتب جراءه من مراكز قانونية وحقوق مكتسبة ، وان لاتُمس هذه الحقوق بالالغاء او الانقاص عند التعديل او الالغاء او من خلال تشريع جديد .

وبالتالي فان الغاء النصوص القانونية التي نظمت حقوقا تقاعدية للمدعي بعد ان اصبحت حقوقا مكتسبة ، يُعد مخالفة دستورية صريحة لنص المادة (5) من الدستور النافذ لعام 2005 . حيث ان الغاء الآثار المترتبة على قوانين مشرعة ، هو اهدار لقوة القانون ،وتسفيه لسيادته وقوته وقت نفاذه .

واشار الاستاذ د.سليمان محمد الطماوي، الوجيز في القانون الإداري، ص 526، وكذلك الاستاذ حسن  كيرة، المدخل إلى القانون، ص344. الى تعريفات للحق المكتسب ومنها تعريف الفقيه الفرنسي  Merlin بأنه: الحق الذي يدخل ذمة الشخص بشكل نهائي بحيث لا يمكن نزعه منه إلا برضاه. كما عرف بأنه الحق الذي لا يجوز للقاضي أن يمسه بسوء أو يسبله صاحبه بحجة تطبيق قانون مستجد.

وهناك عدة أسس يستند إليها في تقرير فكرة الحق المكتسب، هي:

المنطق القانوني: القاعدة القانونية ما هي إلا خطاب موجه إلى الافراد يتضمن أمراً أو تكليفاً بسلوك معين، والامر أو التكليف لا يتصور منطقاً أو عقلاً توجيهه إلى ما فات من الزمن وإنما إلى ما هو آت، ففي رجوع القاعدة القانونية على الماضي خروج عن المدى الزمني لسريانها الذي يبدأ من يوم نفاذها واعتداء على اختصاص القاعدة القانونية القديمة التي تمتد بحكمها حتى يوم نفاذ القاعدة الجديدة.

مبدأ العدالة: مبادئ العدالة تقضي بعدم حرمان الشخص من حق اكتسبه في الزمان الماضي.( د.عبد الرحمن بدوي، آرسطو, بيروت، دار القلم , 1980, ص108).

مبدأ استقرار المراكز  القانونية :يقضي هذا المبدأ بضرورة عدم بقاء المراكز القانونية مهددة إلى ما لا نهاية، ففي انسحاب القاعدة القانونية على الماضي، إخلال بالاستقرار الواجب للمعاملات وإهدار للثقة الواجبة في القانون.  فغالباً ما تترتب للافراد حقوق ومراكز وآثار قانونية في ظل القواعد القانونية النافذة في وقتها، ومن ثم لا ينبغي أن يكون تعديل هذه القواعد أو الغاؤها بقواعد جديدة فرصة للمساس بهذه الحقوق والمراكز أو للانتقاص من تلك الآثار التي ترتبت صحيحة في ظل القواعد القانونية القديمة.( حسن  كيرة، المدخل إلى القانون، ص340)

الدساتير والقوانين والمبادئ العامة للقانون:: كما سبق البيان في الاحكام القضائية .

ثالثاً : ان قانون التقاعد قد خرق نص المادة المادة (29/ اولا/أ) من الدستور العراقي ، والتي تؤكد على إن الاسرة اساس المجتمع والزام الدولة بالمحافظة على كيانها وقيمها الدينية والأخلاقية والوطنية . وبالتالي فأن اجراء مجلس النواب العراقي بالغاء النصوص القانونية التي نَظمت رواتبا تقاعدية للدرجات الخاصة ووكلاء الوزارات ومن بدرجتهم، محاولة منهم لالغائها او انقاصها نؤكد ان هذا السلوك التشريعي هو مخالف تماما لروح هذه المادة الدستورية ولنصها ، فهو يُعدم اسباب المعيشة لعشرات الآلاف من الاسر العراقية ، ويجعلها عرضة لمشاكل اجتماعية ونفسية ومالية قد تُفكك الاسرة وتأتي على قيمها الدينية والاخلاقية والوطنية ، في ظروف تحتاج الدولة ان يستشعر المواطن دنوها منه وحرصها علية، ليكون بدوره سندها وذخرها ضد من يريدون بها شرا .

      لذلك كان على المشرع مراعاة هذه الخصوصية التي التفتَ اليها الدستور واكدها ، وكان على المشرع توخي الدقة في تشريعاته الجديدة ان لاتَمس حقوقا مكتسبة بما يؤدي الى الغائها او انقاصها مخالفا بذلك الدستور في مادة (29) تاسعا ، آنفة الذكراعلاه .

خامساً : ان قانون التقاعد قد خرق نص المادة (37) اولا من الدستور العراقي النافذ ، التي اكدت على ان حرية الانسان وكرامته مصونة . والحرية تتعارض مع اهدار الحقوق المكتسبة وفق المباديء العامة للقانون كما سبق البيان.  ونؤكد ان أيةَ كرامةٌ تبقى للانسان يوم يُقطَع راتبهُ التقاعدي الذي هو السبب الوحيد لمعيشته وعائلته ، وهو سبب تواصله الاجتماعي وسببٌ وحيد لتأدية التزاماته المالية التي رتبها المتقاعد على نفسة ، متكئاً على راتبه التقاعدي بعد ان اطمأن لحق له مكتسب جراء  قانون عراقي ، نافذ وصحيح شكلا وموضوعا ، وهو والامر التشريعي رقم (9) سنة 2005 المعدل بالأمر (31) لسنة 2005.

     عليه نؤكد ان الغاء الراتب التقاعدي او انقاصه للموظفين المشمولين بالامر التشريعي رقم (9) سنة 2005 المعدل بالأمر (31) لسنة 2005.المحالين على التقاعد قبل صدور قانون التقاعد رقم (9) لسنة 2014  هو مخالفة دستورية لنص المادة (37) ، سالفة الذكر اعلاه .                                                     

وإذا القينا نظرة عامة على كتب الفقه القانوني لوجدنا ان هذا الفقه قد اورد عدة تعريفات للحق المكتسب تدور جميعها حول فكرة جوهرية واحدة متفق عليه هي عدم المساس بالحق المكتسب  وان اختلفوا في الأساس القانوني لعدم المساس بالحقوق المكتسبة وثباتها.

 وعلى هذا النحو فان هذا الأساس القانوني عند انصار الاتجاه الشخصي في الحق المكتسب هو  الأخلاق التي تأبى ان تسترد ما تم اعطائه لفرد معين في فترة ما من الزمن بحيث اعتمد عليه في تنظيم اموره  الحياتية ومعاملاته المدنية أو التجارية فضلاً عن حماية الفرد الذي هو من وجهة نظرهم النواة الاساسية للمجتمع وللتطور الاقتصادي لأن  سلب الحق هو قرين لسلب الحرية الفردية. وعلى هذا النحو عرفه (الحق المكتسب) انصار الاتجاه الشخصي للحق، بأنه الحق الذي دخل ذمة الشخص نهائياً بحيث لا يمكن نقضه أو نزعه منه إلا برضاه. أو كما عرفه الفقيه مارلين بأنه: الحق الذي يدخل ذمة الشخص بشكل نهائي بحيث لا يمكن نزعه منه إلا برضاه.

اما الاتجاه الموضوعي في الحق المكتسب فان اساس عدم المساس بالحقوق المكتسبة عنده هو مبدأ الامن الاجتماعي واستقرار المعاملات داخل المجتمع.

وعلى هذا النحو عرفه انصار الاتجاه الموضوعي، بأنه: الحق الذي يملك صاحبه المطالبة به والدفاع عنه أمام القضاء. بينما ذهب اتجاه أخر إلى تعريفه بانه: الحق الذي يقوم على سند قانوني.

كما عرف البعض بأنه الحق الذي لا يجوز للقاضي أن يمسه بسوء أو يسبله صاحبه بحجة تطبيق قانون مستجد.

ان فكرة دوام الحقوق واستقرارها هو الذي قاد إلى قاعدة لا يكاد يخلو منها نظام قانوني ألا وهي قاعدة عدم رجعية القانون على الماضي التي هي ثمرة من ثمار الثورات الشعبية العارمة ضد السلطات الملكية المطلقة التي كانت تتجاوز على الحقوق المكتسبة لعموم الناس بإرادة ملكية شبهت بالإرادة الالهية في كثير من النظم المطلقة، واهم تلك الثورات هي الثورة الفرنسية التي جعلت من هذا المبدأ قاعدة دستورية.

وحسب هذه القاعدة، لا يمكن لقاعدة قانونية جديدة ان تمحو بصفة تلقائية ما تم انتاجه من حقوق في إطار قاعدة قانونية سابقة.

وعليه ليس للمشرع ثمة سلطة، كقاعدة عامة، لإعادة النظر في الحق الذي تم اكتسابه وفقاً لشروط مشروعيته المنصوص عليها قانوناً. وان فعل ذلك يكون قد مس بمتانة العلاقات الإجتماعية، لما فيه من اهدار للثقة بالقانون وتهديم لتصرفات الأشخاص التي تمت صحيحة وقت اكتسابها وإجرائها، فلا يطمئنوا إلى تصرفاتهم، ولا إلى ما اكتسبوه من حقوق. بينما يطبق القانون على الحالات التي تستجد بعد نفاذه لأن الافراد قد علموا بها وبنوا امورهم على اساس منها.

وعدم الطمأنينة إلى القوانين وعدم الثقة فيها  واحدة من أهم اسباب زعزعة الكيانات الاجتماعية والسخط الاجتماعي بل والثورات العامة، وعلى هذا النحو اعتبر الفقيه جارلس دي فيشر ضمان استمرار الحقوق من أولويات النظام القانوني أياً كان.

وفي ضوء ما تقدم فإن من يشغل منصب بدرجة خاصة بعد صدور القانون فانه يسري عليه القانون الجديد وهذا هو الاقرب للعدالة ومعطياتها الإنسانية...  قال تعالى في محكم كتابه العزيز﴿ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾[1]

فمن فعلها قبل نزول الآية الكريمة فإن الحقوق الزوجية والنسب والميراث وغيرها من حقوق لاتتأثر وتبقى مستمرة لأصحابها، اما من يفعلها بعد نزول الآية فإن الحكم مختلف، والله أعلم.

ان ثبات القانون واستقرار المعاملات التي تمت في ظله تكرس ابتداءاً في شريعة حمورابي فقد تمت الإشارة إلى هذه الشريعة كأول مثال لمفهومٍ قانوني يشير إلى أن بعض القوانين ضرورية وأساسية  ومستمرة حتى أنها تتخطى قدرة الملوك على تغييرها. وبنقش هذه القوانين على الحجر فإنها تبقى دائمة، وبهذا يتأكد ويحيا مفهوم الأمن الاجتماعي واستقرار المعاملات في المجتمع والذي تم تكريسه في الأنظمة القانونية الحديثة وأعطت لمصطلح (منقوش على الحجر) ماهيته في الأنظمة الحالية من خلال مبدأ عدم رجعية القانون على الماضي وإحترام الحقوق المكتسبة.






[1] [النساء: 23]

 



https://www.facebook.com/faris.alajrish