السبت، 4 أكتوبر 2014

قانون المدينة التي يحكمها الاموات


قانون المدينة التي يحكمها الاموات

                                                      فارس حامد عبد الكريم

المدينة التي يَحْكُمها الأموات ، هي تلك المدينة التي ما بَرِحت التقاليد البالية والاعْراف الفاسِدة والقيم الطائفية المَقيتة تَحْكُم سلوك ابناءها  وتزرع فيما بينهم العداوة المريرة والحقد الاعمى والبغضاء التي لا تعرف حدودا .

 ومن خصائص هذه المدينة انها تُقيم حُكم الحساسية المُفْرطة والتَضامن المُشوه ، مَحل حُكم العقل والمنطق السليم . مدينة تُعد المقابر ومشاهد النعوش واكفان الموتى من اهم معالمها الحضارية، وهكذا تغدو الحياة في هذه المدينة ، موحشة ، مقفرة ، غير انسانية ، قصيرة .

 هذه المدينة الخَرِبة ، التي لا ينجو من مآسيها حتى الاطفال(1) ، يبدو تاريخها للناظر من بعيد غامضا وفي غموضه سحر السراب ، الا انها تُعيد تشكيل عناصرها ومقوماتها وتحيا وتطل بوجهها القبيح كلما استباح العراق عدو وحاقد او مأفون ، فيشعل نار الفتنة والفرقة فيسري لهيبها في العقول والضمائر ، قبل أن تبدأ بألتهام العباد.

 وهكذا فعلها المغول والتتار وجماعة الخروف الاسود والابيض والعثمانيون والانكليز.... واغلب الوطنيون الذين جاؤا بعدهم ، بأستثناء خالد الذكر الزعيم عبد الكريم قاسم .

هي ذات النغمة النشاز دائماً ، عرب واكراد وتركمان ... سنة وشيعة... وما ينشأ عن ذلك من خلافات مدمرة وتفرقة مزيفة تقوم على الزعم والافتراض لا على الحقيقة والواقع  .

فالحقيقة والواقع , ان ما يوحد ابناء الرافدين اكثر مما يفرقهم ، يوحدهم جميعاً حبهم لوطنهم ، حباً جماً قل نظيره بين المعجبين بأوطانهم ويهزهم الشوق دوماً الى رائحة ترابه الزكية ونخيله الباسقات التي غنى عليها بلبل العراق الفتان بأعذب الالحان.

 يوحدهم دينهم الاسلامي العظيم على قرآن واحد ، وكلمة لا اله الا الله محمد رسول الله ، ويوحدهم بلدهم الواحد منذ فجر التاريخ ، يوحدهم قانون اورـ نمو ومسلة حمورابي الذين ينتميان الى كل عراقي (2) .

 وتجمعهم روابط القرابة والنسب والمصاهرة والجيرة والمصير المشترك وتقارب الاماني والتطلعات ، ولا يختلفون الا في مذاهب التفسير، وفي اطار هذه فان اغلبية المختلفين لا يعرفون من قيمتها العظيمة بمجموعها ، سوى الشكل دون المضمون ، والحال كما يفترض ، الا يكون هذا سبباً للتناحر والعداوة ، بل يفترض ان يكون سبباً للرحمة ، كما قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم موجهاً امتـه العظيمـة ( اختلاف امتي رحمة ) ، مما ينبغي وجوباً ان يُحترم كل عظماء الامة بغض النظر عن الملل والنحل وبغض النظر عن البحث في الصواب والخطأ(3) ، ذلك ان تنوع الافكار والاراء والاجتهادات ما هو الا تجسيد لعبقرية امة عظيمة.

واليوم بعد ان ازيح ثقل الكابوس عن صدر المدينة المنكوبة بحكامها ، ولاحت في الافق اشراقة عهد جديد  ، كان من المؤمل من ابناء الرافدين ، ان ينزعوا ثوب تلك المدينة العتيق الضيق المهتريء وان يطرحوا قانونها ارضاً ، وان ينفضوا غبار الماضي الاليم ، وان يتنشقوا عبير الحرية العذب ، وكان لهم ان يفخروا بتجربتهم الديمقراطية والدستورية الجديدة ،التي قادتهم لاول مرة في تاريخهم  ، القديم والحديث ، الى صناديق الانتخابات ، فاضحوا قادرين على اختيار قادتهم بملء ارادتهم وتمام حريتهم ، بعد تجربة مريرة مع حكامهم الذين حكموهم عبرعهود تاريخية مظلمة طويلة بالاستبداد والظلم والقهر .

 وهكذا كان يوم الانتخابات وكأنه يوماَ للخلاص والامل ، يوماً طرح فيه العراقيون ذكريات الماضي البغيض ، وثياب الحزن ومسحوا دموع فراق الآحبة الذين غيبتهم سلطات الاثم والعدوان عبر تاريخ العراق المليء بالالم والمعاناة السرمدية، ليتوجهوا يحثون الخطى الى مستقبل جديد ارتسمت صورته في العقل الباطن والذاكرة التاريخية على شكل صناديق انتخابات سحرية . كان يوماً خالداً حقاً .

الا ان للعراق اعداءاً تاريخيين ، غلاظ القلب قُساة ، كانوا سبباً ابدياً في معاناة شعبه القديم والحديث ، اعداء ما انفكوا يعملون ليل نهار وبكل جد ومثابرة لمنع الخير والسرور والرفاه عن ابناء الرافدين الطيبين ، الذين كانت طيبتهم وجودهم وكرمهم المتفرد، في احيان كثيرة ، سبباً في معاناتهم ، وهكذا وثقوا مرات عديدة بأعدائهم، املاً في فتح صفحة بيضاء جديدة .

 ولكن قلب عدوهم اسود ، وسهامه مسمومة ، لايهدأ له بالاً ولاينام مرتاحاً ، الا اذا اطمئن ان العراقيين بغير عافية ، وان نسائه ارامل ، واطفاله ايتام ، وخيرة شبابه صرعى او في غياهب السجون. وهكذا دعموا الطاغية الجبان بكل قوة في الماضي القريب، لا حباً به واعترافاً بفضله ، وانما بغضاً بابناء الرافدين ونكاية بهم ، لاسباب بعضها معلوم وبعضها الاخر مجهول ، ومن ثم حرضوه على القتال نيابة عن احقادهم ولؤمهم في  حروب تبدأ ولا تبدو لها نهاية ، حروب لا ناقة للعراقيين فيها ولا جمل ، كما يقول المثل العربي القديم .

واليوم بعد ان لاحت في الافق تباشير رفعة وسرور وخلاص ،عاد اولئك الاعداء ، اقليمين وغير اقليمين ، ليجمعوا كل طوابير الشر والحقد الاعمى والجريمة ليدفعونهم الى ارض العراق الخصبة بالحب الذي يرويه نهرا العراق الخالدان ، دجلة والفرات ، وهكذا تمكنوا منا من جديد ، تمكنوا من زرع الشر والحقد والعداوة بين ابناء الوطن الواحد ، وهكذا احتيا من بين الرماد قانون المدينة التي يحكمها الاموات ، قانون الشر المطلق، الذي يمكن في ظله ارتكاب جرائم من نوع اخر ، جرائم بشعة صدمت مشاعر العراقيين ولم تصدم غيرهم، واظهرت لهم حقيقة اعدائهم .

 في اشد ايام العراقيين محنة ودموية ، تَذكََر اولئك الشرفاء كل مآسي الدنيا وكل ضحايا تسونامي وحيوانات موزمبيق المهددة بالانقراض ، وتدخلوا مسرعين للانقاذ والمساعدة ، بدافع الاعلام والخيرية المزيفة ، ولكنهم لم يتدخلوا ، ولوعلى اضعف الايمان ، لنجدة من يُفترض انهم اشقائهم  .

فهل للعراقيون في ذلك من عِبرة ، وهكذا قال الامام علي (ع) ( ما أكثر العِبر وما اقل المُعتبرين ).

 نعم لقد أستباح الارهابيون الغرباء وبعض الخونة المنافقين الدم العراقي وذبحوا اطفال الرافدين وأرسلوهم باكرا الى المقابر وهم بملابس عيدهم ونشوة طفولتهم دون ذنب الا لانهم اطفال العراق(4)، اجمل وارق اطفال في العالم ، بل انهم ابادوا عوائل بكاملها ذبحا ، واعتدوا على من يُحلف بعفتها وطهارتها ، واهانوا الحر الكريم الشجاع  ابن مضائف العراق وخيراته ، بل فعلوا ما لاتفعله البهائم حتى في بني جنسها من دون وازع من ضمير او اخلاق اودين أو حقوق انسان .

واليوم نتساءل ، بعد ان تحقق الخلاص  ، وادركنا ناصية الامن والامان ، أو نكاد ، ولاحت في الافق تباشير الحلم الكبير الذي راود كل ابناء العراق ، مواطنون ، شعراء ، فنانون ، ادباء ، عرب واكراد وتركمان، سنة وشيعة ، اسلام ومسيح .... بعد سقوط الصنم ، وافول نجم قانون مدينة الاموات ، الا يستحق العراق الجديد منا ، بغض النظر عن الخلاف في وجهات النظر ، جهد كل عراقي للمساهمة في بنائه ودعم مسيرته ، حتى نسرع الخطى الى الامام ولا تكون هناك رجعة الى الماضي البغيض ؟ ذلك ان حب الوطن ليس مجرد كلام.

 اين جحافل الشعراء والادباء والمطربين والفنانين(5) ، الذين كان الطاغية يجمعهم مرغمين بالمئات حتى تكاد تغص بهم القاعات ، لمدح مسيرته المشبوهة والتغني برائحة الموت التي تنبعث من كل شيء فيه، ورسم صورته التي تقبض النفس في كل مدن وزوايا العراق ؟

اين كتاب الرواية والقصة والدراما ، عن مآسي العراقيين الحقيقية ، اين هم عن حسرات وزفرات الاباء المفجوعين والامهات الثكلى والزوجات اللائي ترملن وهن صبايا بعمر الورود ، اين هم عن الشباب الذين خرجوا ولم يعودوا ..... هناك عدد لا نهائي من الحكايات والقصص يمكن ان ترشح اياً منهم لجائزة نوبل في الادب  ؟

 اين هم الان وقد عاد العراق عراقهم ، هل طاب لهم مقام الغربة بعيداً عن اهلهم واحبابهم ، ام ان قانون مدينة الاموات لازال سارياً في العقل والضمير ( المثقف والحكومة لا يلتقيان على صعيد واحد ) ،لكن شعبهم هو من بحاجة اليهم، لا الحكومة .

 نعم لم تتغير صورة العراق كثيرا منذ سقوط حكم الطاغية ، الا ان العراقي اليوم بحاجة الى ان يخلع ثوبه العتيق الضيق وينفض غبار الماضي الأليم ليظهر بصورته المشرقة التي يستحقها بثوب جديد وحلة زاهية ، وهذا جزء من مهمة المثقف الوطني ، سواء كان واقعياً او وجودياً او سريالياً او على اية حال يكون ، وهكذا كان سارتر وكامو وبيكاسو وسلفادور دالي وطنيين في النهاية .

ايها السيدات والسادة .... مسيرة العراق اليوم هي مسيرة شعب ، لا مسيرة حاكم ، والشعب لا يوزع مكرمات او عطايا ، ولكن يكفي فخرا ان يدخل اياً منا في ذاكرته الجميلة .

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ  ـ ـ ـ ـ  ـ ـ

(1) ـ حبيبة ابيها : أصل الحكاية ، ياسادة ياكرام ، ان رجلاً عراقياً تحدث عبر المذياع قائلاً ، ان زوجتي واختها وابنتي البالغة من العمر ست سنوات ، كانوا مسافرين عبر احد الطرق الخارجية ، فتصدت لهم مجموعة مسلحة ، من سكان مدينة الاموات ، فذبحوهم جميعاً ، بما فيهم طفلتي البريئة . كانت في نشوة بالغة عند مغادرتها بيتنا وقبلتني من كل قلبها لاني سمحت  لها بمرافقة امها ، كانت سفرتها الاولى في حياتها الى بيت خالتها في تلك المحافظة التي طالما سَمِعت عنها ولم تراها ، ليس المهم عندي من هم القتلة وليس المهم لاية طائفة ينتمون ، قال الاب مستدركاً عبر المذياع ، المهم عندي ان اعرف كيف استطاع انسان مسلم ان يمرر سكين على رقبة طفلة بعمر الزهور ويفصل راسها عن جسدها ويرميه بعيداً ، وماذا دار في خلدها في تلك اللحظة ، لابد انها... وعندها اجهش بالبكاء ...

(2) ـ ،  يعتبر قانون ( اور ـ نمو ) العراقي اول قانون مكتشف حتى الان في العالم قاطبة ، اذ يعود تاريخ تدوينه الى فترة حكم الملك (اور ـ نمو) (2113 ـ 2095) ق.م ،بينما وضع قانون حمورابي حوالي القرن العشرين قبل الميلاد .

(3) ـ لازال كل من سقراط وارسطو وافلاطون ، يعتبرون من اعظم اعمدة الفكر الغربي عبر التاريخ بحق، رغم ان اغلب نظرياتهم اليوم تعتبر من المسائل التاريخية ولاتجد تطبيقاً الا نادرا وفي اطار الاصول ، بعد ان ثبت عبر التاريخ صحة البعض وعدم صحة البعض الاخر مما جاءت به من  طروحات ، ولكن ذلك لايقلل من قدر اولئك الرجال العظام مطلقاً ،اذ  يكيفهم فخرا انهم فتحوا للعلم ابوابا لم تكن معروفة قبلهم ، وطور من جاء بعدهم ما كان اصله جاهزاً . وهذا يعني ان النظر الى التاريخ ورجاله وفق معيار الخطأ والصواب، ليس امراً صائباً او مفيداً في كل الاحوال .

(4) ـ في احد ايام العيد كان طفلاً عراقياً في السادسة من عمره يلعب الكرة  امام دارهم ،كانت امه قد البسته ملابس وحذاء العيد الجديدة، فظهر في حلة وبهاء ونشوة العيد كأي طفل من احباب الرحمن في يوم عيد، وبعد لحظات من خروجه وجد مقتولاً ، وتناقلت وكلات الانباء العالمية اخبار العيد في كل البلدان وكان من بينها صورة ذلك الطفل العراقي وهو يرقد في التابوت بملابس العيد .

(5) ـ  اطلق الطاغية عليهم وصف الفيلق الثامن اثناء حرب الثمان سنوات .

بغداد في 12/12/2007

ـــــــــــــــــــ

 

farisalajrish@yahoo.com

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق