الفرق بين ما هو مزيف وما هو حقيقي
فارس حامد عبد الكريم
ليس
الفيلسوف من يتمكن لوحده من كشف جوهر الأشياء ودلالاتها بفكره وحدسه عندما يميز
بين معايير الخير والشر ليعلنها بشكل منطقي مجرد، فقد يتمكن الإنسان البسيط من
التعرف على حكمة الأشياء وكشف بواطن الأمور وما توحي به من دلالات مستنداً في ذلك
الى فطرته وخبرته في الحياة ليعبر عنها سلوكه وحكمته المستندة الى التجربة التي
ترسخت عبر الزمن والى الإرث الحضاري الفذ الممتد عبر الزمن.
والشعب العراقي شعب حي يبحث عن خلاصه، شعب يعرف كيف يحزن وكيف يفرح ،
ويعرف باحتراف تاريخي كيف يحول تلك الأحزان والأفراح في النهاية الى ملاحم وطنية
خالدة.
انه الشعب الماهر صانع الحضارات ، الذي كتب قبل التاريخ ملحمة الفناء
والخلود ، ملحمة كلكامش، مابرح الى اليوم يسطر ملحمة تلو الأخرى، ويقف مواقف نادرة
تستحق التأمل والتفكير في معانيها العميقة وان كانت في ظاهرها تبدو بسيطة ومألوفة.
ومن صفاته التاريخية انه يدرك في الغالب الفرق بين ما هو مزيف وما هو
حقيقي، وان وقع في الخطأ مرة فانه لن يقع به مرة ثانية.
هناك ثلاث
وقائع من الحياة اليومية تعبر عن بعض الأفكار المتقدمة بعفوية صادقة:
1 ـ العجوز الذي فر بورقة الانتخابات
العجوز الذي فر بورقة الانتخاب وطاردته الشرطة، ولأنه خبير فطري بشؤون
الدكتاتورية التي عاصرها طوال حياته إلا ما بقى من رحمة الله ، يعرف اليوم الفرق
بين الدكتاتورية والديمقراطية، يتذكر كيف كان الرفيق ذو الوجه الكالح يطرق بابه في
يوم الانتخابات المزيفة التي يفوز بها شخص واحد هو الدكتاتور بنسبة مئة في المئة
من الأصوات ، ليقوده مع ابناء عمومته وأخواله وجيرانه الى الصندوق المحاط بالرفاق ممن
يرتدون الملابس الزيتوني وقد تدلت أسلحتهم على جوانبهم ، ليسأله كبيرهم ( حجي المن
تنتخب ) وهو يلتفت الى عصابته الزيتونية باسماً فيقهقه الرفاق برد فعل ميكانيكي ،
ثم يلتفت إليه قائلاً حجي أعطني الورقة لأساعدك ، فيضع العلامة أمام (نعم) ويضعها
في الصندوق قائلاً ـ بارك الله فيك حجي.
ان هذا العجوز قد أدرك بذكائه الفرق بين ما هو مزيف وحقيقي ، أدرك
تماماً الفرق بين العراق القديم والعراق الجديد، ولان ضميره وعقله مليء بالذكريات
الماضية المرة حاول هذه المرة ان يحصل على ذكرى من الزمن الجميل.
2 ـ العجوز التي قبلت موظفي مفوضية الانتخابات
القبلة هي رمز الفرح الطاغي والحب الأصيل الذي لا تشوبه شائبة فضلاً
عن إنها علامة من علامات الرضى عن أمر مهم مطلوب قد تحقق ، هذا الرمز الإنساني
الحي لا يمكن أن تمنحه أمراة عراقية بسهولة ، وإنما يعني إن هناك امرأ عظيماً قد
جال في خلد هذه المرأة وهز مشاعرها وضميرها ، ضمير الام العراقية.
قد ينسى الأب همومه وأحزانه وهو يصارع من اجل الحياة ومتطلباتها ،
ولكن الام لا تنسى أبدا ، إذا فقدت ابناً او عزيزاً ، بل ان غريزة الأمومة لديها
تجعلها في محل حزن شديد إذا فقدت أي أم من الأمهات ابناً لها.
وقد راقبت هذه الأم ولاشك، خيرة شباب العراق وهم يساقون للحروب
والمشانق في ذلك الزمن الأليم، وهي تراهم اليوم وهم
يتنشقون عبير الحرية العذب الذي قادهم لأول مرة في تاريخهم ، القديم والحديث ، الى صناديق الانتخابات ،
فأضحوا قادرين على اختيار قادتهم بملء ارادتهم وتمام حريتهم ليرسموا مستقبلاً ناصعاً لوطنهم لطالما حلموا به وهم فخورون بتجربتهم الديمقراطية
والدستورية الجديدة ، بعد تجربة مريرة مع حكامهم الذين حكموهم عبر عهود تاريخية
مظلمة طويلة بالاستبداد والظلم والقهر ، فماذا
يمكن ان تقدم عجوز لرموز هذا الحلم غير قبلة ام عراقية هي في حقيقتها ومعناها
تعبير عن إدراك الفرق بين ما هو مزيف وحقيقي.
3 ـ ثوابت الشعب العراقي
الشعب العراقي شعب محب للحياة باعتدال ، وهو يؤمن بالحكمة التي تقول
ان خير الأمور أوسطها ، وعلى هذا وعبر التاريخ لم ينحدر ابناء الرافدين في الأوضاع
الطبيعية الى مهاوي التشدد والانغلاق الفكري والعقلي ولا الى تفاهة الانحلال
والانحدار الأخلاقي ، انه شعب كريم يحب الكرم والكرماء ويمقت البخل والبخلاء، وشعب
ذو خلق يعجب بذوي المروءة وينجذب إليهم، يمقت الظلم ويحب العدل ، شعب يكره
الطائفية والعنصرية والطائفيون والعنصريون ومحب لوطنه ومتعلق به تعلق الوليد بأمه ولا
ينسى من يخدمه ويضحي من اجله بصدق وأمانة ، أما بعد فهو شعب شجاع يحب الشجاعة
والشجعان ويكره الضعف والتخاذل ويقدر البطولة والأبطال.
والعراق بالحقيقة والواقع بلد التنوع والرأي والرأي الأخر, إلا ان ما يوحد
ابناء الرافدين أكثر مما يفرقهم ، يوحدهم جميعاً حبهم لوطنهم ، حباً جماً قل نظيره
بين المعجبين بأوطانهم ويهزهم الشوق دوماً الى رائحة ترابه الزكية ونخيله الباسقات.
وهذا هو
مفتاح الشعب العراقي الذي ينبغي على كل سياسي ان يمتلك نسخة منه ليتمكن من كسب
ثقته.
**************
بغداد في 3/2/2009
فارس
حامد عبد الكريم العجرش
نائب
رئيس هيئة النزاهة سابقاً
ماجستير في القانون
باحث في فلسفة القانون
والثقافة العامة
بغداد ـ العراق
farisalajrish@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق