هل يصح
الصحيح في بلاد الرافدين يوما ؟
فارس
حامد عبد الكريم
عبر رسالة
بريد الكتروني، شكا لي ذات مرة باحث متخصص محترم يحمل شهادة عالية وسبق ان اختارته
الأمم المتحدة خبيراً في مناسبات عدة، انه نقل من رئاسة الدائرة التي يعمل فيها
مديراً عاماً إلى رئيس قسم الآليات لتكون مهمته اليومية هي منح تصاريح للسائقين
وصرف اجور تصليح العجلات والاطارات .... ونوه في رسالته ان حبه للعراق وحرصه على مصلحته
العليا وسهر الليالي وهو يعد البحوث العلمية لتطوير العمل وإمكانياته..، فان كل
ذلك لم يشفع له واحل محله شخص لا يصلح حتى ان يكون تلميذا عنده ...
الواقع إني
اتخذت في ذلك الوقت بعض الإجراءات التي لم تجد نفعاً في النهاية،فهدأت من خاطره
ورددت له المقولة القديمة المشكوك في صحتها في تاريخ بلاد الرافدين حصراً من انه (
لن يصح إلا الصحيح في النهاية ) .. وأجدني اليوم،بعد ان علمت انه ترك العراق ويرأس
حالياً مؤسسة دولية، بحاجة بل وبرغبة ملحة
إلى ان أعيد صياغة جوابي إليه بشكل أخر...
أخي الذي
لم أره يوماً ... ربما لم نلتقي في مكان معين او لم نجتمع على مائدة واحدة ،
ولكن من المؤكد اننا نلتقي عند شعور وإحساس واحد هو حب العراق وأهله الطيبين ، كما
ونجتمع عند هدف واحد هو مصلحة العراق والعراقيين . ولا يهم بعد ذلك ان اختلفنا في
طريقة التعبير واسلوبه ،لان المهم في
هذا المقام ، كما قلت في مقال سابق ، ان الإبداع سواء كان في مجال العلم أو الأدب
أو الفن هو نتاج فكر وحدس الكاتب والأديب
والفنان الذي يغور في العمق الباطن للأشياء والموجودات فيكشف عن جوهرها متجاوزاً
ما هو عرضي وزائف في ظاهرها وشكلها الخارجي.
يقال انه ليس
كل ما يلمع ذهباً ، ولكن للأسف فان المزيف المطلي بما هو يلمع كثير الظهور في حياة أبناء بلاد الرافدين ،
وحقائق التاريخ تؤكد ذلك ، فصوت يزيد هو المسموع في كل العصور العراقية اما صوت
الحسين (ع) ومريديه فتحجبه الأصوات النشاز
دائماً.
في مصر مثلاً ، الكل باشا وست هانم مادام مبدعاً
،من الراقصة والطبال الى الاديب والمحامي والطبيب والسياسي ....
اما في
العراق فان الباشا الوحيد هو المزيف ذو البريق الخارجي الخادع ، اما الحقيقي فهو في حالة اللاباشا دائماً ،وتاريخ
العراق القديم والحديث يؤكد هذه الحقيقة، والسبب في اغلب الأحيان هو انعدام
التقاليد المؤسساتية الراسخة وتلك الحاشية التي تحيط بالحاكم ويوليها ثقته التامة
، بما لها من قدرة وقابلية على تغيير القناعات وتوجيه إرادته بأساليب ملتوية
غادرة.
في زيارة
لي إلى القاهرة مع صديق يعمل قاضياً وتجمعنا هواية مشتركة هي حب القراءة واقتناء
الكتب،وبعد ان اقتنينا بلهفة مجموعة من الكتب القانونية من مكتبات القاهرة العامرة
لفت انتباهنا وجود بعض الأخطاء الموضوعية في كتاب لأحد كبار المؤلفين
المصريين،وبعد جدل ونقاش اتفقنا على مراجعة المكتبة التي نشرت الكتاب للحصول على
البريد الالكتروني للمؤلف، وعند وصولنا إلى المكتبة وسؤالنا عن البريد الالكتروني أجابنا
مدير المكتبة:
ـ انتم عاوزين
ايه من عنوان الكاتب
أجابه
صديقي القاضي:
ـ لقد
وجدنا في مؤلفه هذا بعض الأخطاء ونرغب بأن ننبهه عليها.
وهنا ابتسم
مدير المكتبة وقال ساخراً:
ـ انتو عاوزين
تخطئوا الاستاز ... ده باشا يابه ... عارفين ايه يعني باشا ...
وقد رفض
رفضاً قاطعاً اعطاء العنوان وكل ما عرفناه منه ان الأستاذ المقصود غير مقيم في مصر وانه يعمل أستاذا ورئيس قسم علمي في أحدى الجامعات الأمريكية المرموقة...
الواقع ان
الشعب المصري شعب متحضر وحضارته متصلة وثقافته هي ثقافة التسامح بشكل عام، وتمتاز
مؤسساته الاجتماعية والسياسية والقضائية وحتى التجارية بالاستقرار والثبات منذ
قرون عديدة مما ولد أعراف وتقاليد راسخة في ميدان المجتمع والمهن والعمل الرسمي
والخاص يصعب على أي مصري تجاوزها او نكرانها، خاصة واني لمست ان معظم المؤسسات
المصرية يديرها أشخاص يمكن اعتبارهم فطاحل في مجال اختصاصهم.
وثقافة
المصري ابعد ما تكون عن ثقافة البداوة التي لا تعترف لأحد بالفضل الا في الحدود
الشخصية والقبلية...بل أنهم يعطون الاشخاص والاشياء أهمية اكبر من قيمتها الحقيقية
من باب التكريم والمجاملة.
ومن محاسن صدف المصريين ان الأجانب الذين احتلوا
مصر، وهم من ملل ونحل شتى، أتراك ومماليك وفرنسيين وانكليز، ساهموا في اغناء
الثقافة والحضارة المصرية القابلة أصلا للتطور الذاتي واستيعاب الثقافات الأخرى
...
الفرق
بيننا وبين المصريين، وحضارتنا أقدم من الحضارة المصرية ولها السبق في أمور جوهرية
في حياة البشرية ومعارفها ، هو عدم الاستقرار الذي شهده العراق في تاريخه القديم
والحديث المليء بالمغازي الأجنبية التي دمرت الحضارات العراقية المتعاقبة ولم تقدم
لها أي شيء جديد، فكانت في اغلبها غزوات سلب ونهب وامتصاص دماء وخيرات العراقيين...
وما ان
تنشأ مؤسسة عامة أو خاصة حتى تنهار بعد
وقت قصير لتحل محلها مؤسسات أخرى بأفكار جديدة تتنكر لما قبلها، وعلى هذا النحو لم
تنشأ لدينا أعراف وتقاليد للعمل والمهن،وبقى الاجتهاد الشخصي القائم على المزاج الآني
في كثير من الأحيان هو السائد، وتتولد عن ذلك في كثير من الأحيان قرارات وإجراءات
غير منطقية وغير متوقعة البتة، فقد يجد الموظف نفسه قد عوقب أو انتقم منه أو انتقصت
حقوقه المكتسبة فجأة بناءا على رؤى ومقاييس شخصية لا عامة خلافاً لقاعدة (عدم جواز
الانتقاص من الحقوق المكتسبة) ذات الطابع الدستوري (1).
ان انعدام
التقاليد والأعراف في العمل يخلق الفوضى وعدم الاستقرار ويولد الأخطاء المتراكمة
ويضر في النهاية بقواعد العدالة والمساواة ويكون عاملاً من عوامل استبعاد الكفاءات
والعقول النيرة وانهيار المؤسسات في النهاية.
الواقع ان
ثقافتنا العراقية الأصيلة، بسبب ثقافة الدكتاتوريات المتعاقبة، تبقى غالباً خارج
نطاق العمل وتبقى أسيرة المؤلفات والمكتبات ومعارف المثقفين النظرية.
كنت تساءلت ذات مرة عن ماهية الأدوار الرسمية
التي أسندتها الحكومات العراقية المتعاقبة لعباقرة مثل الرصافي والجواهري ونازك
الملائكة والسياب والآلاف من فطاحل الطب والهندسة والقانون ومختلف العلوم ، لاشيء
يذكر ، بل حتى يندر وجود حملة الشهادات
العليا في الوزارات العراقية لدرجة ان حظ خريج متوسطة في ان يحصل على فرصة عمل فيها أقوى من حظ حامل الشهادة العليا.
وعلى هذا
فان ديك العراق سيبقى يصيح للأبد ( ست الحسن بالتنور وعويران بره ) ولكن سوف لن
ينتبه إليه أحدا ولن يصحو أحدا من نومه على صياحه ، لان صوته ليس مزيفاً ، وصوت الحقيقة
لا تألفه قلوبنا من كثرة الصدأ الذي تراكم عليها منذ عصور ودهور طويلة.
وعلى هذا
النحو من الحقيقة والواقع ورغم اننا كنا ومابرحنا نسمع القول المأثور ( في النهاية
لا يصح الا الصحيح ) ومن كثرة سماعي هذا القول منذ طفولتي دون ان أرى له تطبيقاً
في وقائع حياتنا الماضية ولا في المدى المنظور بت اكره سماعه وبت اعتقد او على وشك
الاعتقاد ان الصحيح لن يصح في العراق ابداً.
فلم نره
يصح في زمن اجدادنا ولا في زمن ابائنا ولا في زمننا ولا يوجد ما يؤشر إلى انه سيصح
في زمن ابنائنا أو احفادنا ....
قبل الفي
عام كتب شاعر قصيدة تقول كلماتها:
من أخاطب اليوم؟
أقران المرء أشرار
وأصدقاء اليوم لا يجيبون
من أخاطب اليوم؟
مات من كان وديعا
أما الشرس فعلى اتصال بكل إنسان
من أخاطب اليوم؟
ليس من يذكر عظات الماضي
وليس من يفعل اليوم معروفا لقاء معروف!
أقران المرء أشرار
وأصدقاء اليوم لا يجيبون
من أخاطب اليوم؟
مات من كان وديعا
أما الشرس فعلى اتصال بكل إنسان
من أخاطب اليوم؟
ليس من يذكر عظات الماضي
وليس من يفعل اليوم معروفا لقاء معروف!
وقبل
حوالي أربعة عشر قرناً من تاريخنا خرج الحسين (ع) رافعاً سيف الحق بوجه الظلم
وأهله واستشهد في سبيل ذلك مع كوكبة من أحفاد الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم
وأتباعه ، ولليوم فان الذين يعتقدون بأحقيته هم من القلة بحيث تكاد نسبتهم لا
تقارن بأعداد الذين يرون انه خرج على إمام زمانه فأستحق ما جرى له، فان كان هذا
حال من كان جده سيد البشر ،فكيف هو حال المواطن غير المشمول بالمحاصصة السياسية؟
ولكن هل
نتخلى عن العراق وأهله الطيبين ... الجواب اننا لا نتخلى عن وطننا ابداً ولن نحب
غيره ... ولا ينبغي لنا غير ذلك، فالقلب لا يتسع لغير حب العراق وأهله، فقد نكون
مخطئين في رأينا ويصح الصحيح في يوم ما وان بدا غير منظور....
قد لايرضي
هذا الكلام الكثير ... ولكنه الحقيقة
المرة.
******
1ـ يرتبط الحق المكتسب بمبدأ عدم رجعية القانون للماضي ومبدأ امن
وسكينة المجتمع برابطة وثيقة وهما اللذان يوفران له الأساس القانوني للحماية وتقوم
فكرة الحقوق المكتسبة في الغالب على اساس حق سواء كان مصدره مشروعاً او غير مشروع عند نشأته ولكنه يتحول إلى
حق مشروع بفعل عامل الزمن في الغالب تطبيقاً لمبدأ قانوني كلي هو مبدأ استقرار
المعاملات وامن المجتمع الذي يتقدم عند التعارض على مبدأ العدل القانوني والحق
الطبيعي، ومن ذلك كسب حائز العقار ولو كان متعدياً لملكية العقار بالتقادم،حيث
تفضل مصلحة الحائز على مصلحة المالك الشرعي تطبيقا للمبدأ المذكور، ومن ذلك تحديد
مدد الطعن بالقرارات القضائية والإدارية، فلا يستطيع من تعرض لقرار جائر ان يطعن
به الا خلال مدد محددة وبخلافه يسقط حقه بالطعن، ومقابل ذلك لا تستطيع الإدارة ان
تلغي قراراتها غير المشروعة التي تولدت عنها حقوق مكتسبة للآخرين الا خلال المدد
المحددة للطعن القضائي، لانه بفوات المدة ليس للقاضي ان يلغي قراراً إداريا ولو
كان غير مشروع ومن باب أولى ان لا يكون للإدارة ما ليس للقضاء.
وقد اعترفت الشريعة الإسلامية في مواضع كثيرة بالحقوق المكتسبة قبل
الإسلام :
قال تعالى
( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ....(الآية) إلى قوله تعالى (... وَحَلائِلُ
أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ
وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيما ً)
(النساء:23)
***********
2007
فارس حامد عبد الكريم العجرش
ماجستير في القانون
نائب رئيس هيئة النزاهة سابقاً
باحث في فلسفة القانون
والثقافة
القانونية العامة
بغداد ـ العراق
البريد:
farisalajrish@yahoo.com
موقعنا: الثقافة القانونية للجميع
http://farisalajrish.maktoobblog.com/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق