الحرب غير المعلنة واقتصاد الحرب
فارس حامد عبد الكريم
ابتداءاً من سنة 2005 دخل العراق في حالة حرب غير معلنة مع تنظيم القاعدة وعدد من
دول الجوار التي استقطبت وجندت المقاتلين من جنسيات مختلفة ومن مختلف بقاع الأرض
ودربتهم تدريباً عال المستوى بعد ان زودتهم بالأسلحة المتطورة والأجهزة الفنية
والإعلامية والمعلومات الاستخبارية، فضلاً عما رصد لهم من ميزانية مالية ضخمة ، وأرسلتهم
إلى العراق مع قادة مختارين بعناية هم في الأصل عناصر جهات مخابراتية مستمرين
بالخدمة في أجهزة بلادهم ، فكانت ارض العراق ومدنه مسرحاً لهذه الحرب..
وكان
خطاب العدو السياسي يتحدث عن شن الحرب على العراقيين الكفار، كما وأفتى شيوخهم ان
كل ما يكسب من هذه المعارك يعد غنائم حرب، سواء كان من الأشياء او من البشر، فهي الحرب أذا في حقيقتها ومعناها.
وفي الوقت الذي التزم به العراق بقواعد القتال
النظيفة ، كان العدو يعمل بلا أية ضوابط او قواعد حتى تلك التي اشترطتها المواثيق
الدولية واتفاقيات جنيف كحد أدنى للاعتراف بشرعية أية جماعة مسلحة. ومنها عدم جواز
الاحتماء بالمدنيين وإتباع القواعد الدولية المنظمة لمعاملة الأسرى من الطرفين.
فكان لزاماً على القوات العراقية ان تلتزم
بكافة المواثيق الدولية ومبادئ حقوق الإنسان والدستور والقانون العراقي وهي تقبض
على أفراد العدو وان تعامله معاملة ممتازة وان تعرضه على القضاء فوراً.
بينما كان العدو يقيم احتفاليات لذبح عموم
العراقيين وأفراد الجيش أو الشرطة علناً ويجبر السكان المحليين على حضورها ، بل
انه تفنن في الانتقام حتى ارتكبت أبشع الجرائم بحق عوائل منتسبي القوات المسلحة وعموم
أفراد الشعب ، واغتصبت الفتيات بعد ان اعتبرن غنائم حرب بطرق بشعة يندى لها جبين
البشرية، وتلت ذلك مرحلة تفجير الأسواق والمساجد التي تغص بالسكان المدنيين
الأبرياء .
ونالت تلك الجرائم تأييداً واسعاً من الشارع
العربي تدرج بين التصريح العلني او السكوت عن إدانة تلك الجرائم التي ارتكبت بحق
شعب غالبيته من العرب والمسلمين وكان له مواقفه الرائدة تجاه القضايا العربية
والإسلامية، وهكذا جمعوا كل طوابير الشر والحقد الأعمى والتخلف والجريمة ليدفعونها
الى ارض العراق الخصبة بالحب الذي يرويه نهرا العراق الخالدان ، دجلة والفرات.
وعلى هذا النحو كانت المعركة غير متكافئة،
والنصر فيها ليس سهلاً.
ولضخامة التهديد الذي مس سلامة العراق وسلامة
شعبه ، كان على الحكومة العراقية ان تعمل وفقاً لمعايير اقتصاد الحرب، والمعلوم ان
اقتصاد الحرب، يقوم على فكرة تكييف النشاط الاقتصادي لتلبية نفقات الاحتياجات
العسكرية بشكل كامل بينما تضغط ميزانية النفقات المدنية وتلبى الاحتياجات الأساسية
منها فقط.
ومن المنظور الاقتصادي فان النفقات العسكرية لا
تعد مجرد اقتطاع من الفعاليات الاقتصادية وإنما أداة تدمير للنشاط الاقتصادي
برمته. فالجيش مؤسسة استهلاكية ويتطلب تجهيزها واعداها ورواتب منتسبيها مبالغ
طائلة، وعلى سبيل المثال كلفت الحرب التي شنها التحالف الدولي على العراق سنة 1991
التي استمرت حوالي الشهر اكثر من 150 مليار دولار. بالنسبة لجيوش مهيأة للقتال أصلا.بينما
كان على الحكومة العراقية ان تبني جيشاً وقوات أمن بجميع معداتهما من جديد ابتداءً
وان تقاتل بها الأعداء في نفس الوقت.
ان اقتصاد الحرب يعني في النهاية تقليص
الخدمات المدنية والتركيز على الإنفاق العسكري ، لأنه لا يمكن إنفاق الأموال على
الخدمات في مقابل احتمال سقوط الدولة.
ودعمت هذه الحرب بخطاب إعلامي يستند الى
العلم والخبرة هو اعلام حرب.
وعلى هذا الحال كانت هزيمة هذا العدو معجزة
بحق، معجزة انتصار كبير ساهم في صنعه كل ابناء العراق الشرفاء ، بعد قدموا تضحيات
غالية وهم يتحدون العدو بكل جرأة وبسالة.
وفي دول عديدة وتحت ظل ظروف مشابهة، توقفت
الحياة فيها توقفاً شبه تام بجميع مظاهرها الرسمية وغير الرسمية ، بينما في ظل أقسى
تلك الأيام وأكثرها دموية كانت الأمهات العراقيات والآباء يقودون أبنائهم الى
المدارس كل صباح ، وهم اعز خلق الله لديهم ، وكانت الدوائر الرسمية تعمل بلا توقف رغم
استهداف حياة مئات الموظفين او تهديدهم بالقتل او الخطف .
كذلك
كانت ولا تزال الأسواق عامرة بالناس وبالبضائع رغم ضخامة عدد العجلات المفخخة
والعمليات الانتحارية ، التي لم يكن يمر يوم إلا وحدث فيه انفجار انتحاري او اكثر ليذهب
ضحيته العشرات او المئات من الأبرياء.
وكانت الجوامع والحسينيات عامرة بأهل الإيمان،
في إصرار عجيب على التواصل رغم وضعها في قائمة الاستهداف الإرهابي الأول ، وكان من
أكثرها مأساوية استهداف انتحاري لحياة أكثر من ستين صبياً كانوا قد انهوا للتو
دورة في تلاوة القرآن الكريم في جامع حي العامل، فتناثرت أجسادهم الطاهرة في
الطرقات وعلى الأشجار في جريمة هزت ضمير الشعب العراقي، بينما تجاهلتها وسائل
الإعلام العربية.
وتحت أزيز الرصاص ودوي الصواريخ المجهولة
والقناصة المجرمين توجه أكثر من 12 مليون عراقي بملء أرادتهم لانتخاب حكومتهم
الوطنية، في ظاهرة قل نظيرها بين الشعوب حتى في ظل الظروف الاعتيادية.
وكان
شباب العراق يتجمهرون للتطوع في الجيش والشرطة بأعداد ضخمة أمام مراكز التطوع بكل إصرار وتحدي ، رغم استهدافهم من العدو
عشرات المرات .
ولتبدأ بعد النصر المؤزر، معركة من لون وطعم أخر،
هي معركة الخدمات والبناء والأعمار، معركة صنع العراق الجديد.
هكذا شعب لا يمكن أن يخسر معركة، لأنه يقدر
قيمة الحياة.
*************
بغـداد في 25 /12/2008
فارس حامد عبد الكريم العجرش
ماجستير في القانون
نائب رئيس هيئة النزاهة سابقاً
باحث في فلسفة القانون
والثقافة العامة
بغداد ـ العراق
farisalajrish@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق