فارس حامد عبد الكريم
التقاعد حق مكتسب في جميع قوانين العالم ... ولم نسمع يوماً حقاً وصدقاً ان دولة ما قد الغت رواتب متقاعديها سواء من عموم الموظفين او من الموظفين ذوي الدرجات الخاصة، وعلى هذا يكون الغاء تقاعد الدرجات الخاصة اختراع عراقي بإمتياز... دون الالتفات إلى أية نتائج اجتماعية وأسرية وحتى وطنية مترتبة على ذلك...
وإذا كان العراقيون الاوائل قد اخترعوا القانون لأول مرة في تاريخ البشرية متمثلاً في وثيقة اصلاحات اوركاجينو وقانون اورنمو وقانون لبت عشتار واخيراً شريعة حمورابي .. هذه الشرائع التي اذهلت العالم بسعيها لتحقيق العدالة بين البشر كما نص عليها صراحة في شريعة حمورابي ... فإننا نقول ... أن الحمد لله إن هؤلاء العراقيون القدماء لم يكونوا من احزاب الإسلام السياسي لأنهم لو كانوا كذلك لغيروا مجرى التاريخ القانوني لأغراض انتخابية وجعلوا من رجعية القانون على الماضي والحقوق المكتسبة اصلاً بدلاً من أن يكون استثناءاً كما هو الحال في جميع قوانين العالم اليوم وقد سبقتهم في ذلك الشريعة الاسلامية الغراء كما سيتبين لنا لاحقاً...
اضافة لما تقدم ، نؤكد ان الغاء النصوص القانونية التي رتبت حقوقا تقاعدية للمتقاعدين و للمدعي ، قد خالف حزمة من المواد الدستورية وكما يلي :
ـــ المادة (2): ج ـ لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع الحقوق والحريات الاساسية الواردة في هذا الدستور.
ـــ المادة (5) من الدستور العراقي النافذ التي نصت ( السيادة للقانون ، والشعب مصدر السلطات ...........).
ــ المادة ( 23): أولاً :ـ الملكية الخاصة مصونةٌ، ويحق للمالك الانتفاع بها واستغلالها والتصرف بها، في حدود القانون. ثانياً :ـ لا يجوز نزع الملكية إلا لأغراض المنفعة العامة مقابل تعويضٍ عادل، وينظم ذلك بقانون.
ـــ المادة (19/ تاسعا) : من الدستور النافذ والتي تنص (ليس للقوانين اثر رجعي ما لم يُنص على خلاف ذلك ، ولا يشمل هذا الاستثناء قوانين الضرائب والرسوم ) .
ـــ المادة (30): أولاً :ـ تكفل الدولة للفرد وللأسرة ـ وبخاصة الطفل والمرأة ـ الضمان الاجتماعي والصحي، والمقومات الأساسية للعيش في حياةٍ حرةٍ كريمة، تؤمن لهم الدخل المناسب، والسكن الملائم.
ثانياً :ـ تكفل الدولة الضمان الاجتماعي والصحي للعراقيين في حال الشيخوخة أو المرض أو العجز عن العمل أو التشرد أو اليتم أو البطالة، وتعمل على وقايتهم من الجهل والخوف والفاقة، وتوفر لهم السكن والمناهج الخاصة لتأهيلهم والعناية بهم ، وينظم ذلك بقانون .
ثانياً :ـ تكفل الدولة الضمان الاجتماعي والصحي للعراقيين في حال الشيخوخة أو المرض أو العجز عن العمل أو التشرد أو اليتم أو البطالة، وتعمل على وقايتهم من الجهل والخوف والفاقة، وتوفر لهم السكن والمناهج الخاصة لتأهيلهم والعناية بهم ، وينظم ذلك بقانون .
ـــــ المادة (37): أولاً :ـ أ ـ حرية الإنسان وكرامته مصونةٌ.
وعلى التفصيل الاتي:
اولاً: ان قانون التقاعد قد خرق نص المادة (2/ج) من الدستور التي تنص على انه ( لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع الحقوق والحريات الاساسية الواردة في هذا الدستور). ــ ونص المادة ( 23) من الدستور التي نصت على انه (أولاً :ـ الملكية الخاصة مصونةٌ، ويحق للمالك الانتفاع بها واستغلالها والتصرف بها، في حدود القانون. ثانياً :ـ لا يجوز نزع الملكية إلا لأغراض المنفعة العامة مقابل تعويضٍ عادل، وينظم ذلك بقانون).
وتتمثل اوجه الخرق الدستوري بما يأتي:
أ: ان القانون المشار اليه يتعارض مع الحقوق الاساسية الواردة في هذا الدستور: ذلك ان التقاعد حق عيني وشخصي في ذات الوقت، فهو حق عيني من جانب لان المتقاعد قد كسب حق ملكية على الراتب التقاعدي وفق الشروط القانونية وقت كسبه، وهو حق شخصي لانه عبارة عن دين ناشئ في ذمة الدولة لصالح الدائن وهو المتقاعد نتيجة للاستقطاعات التقاعدية من راتبه.
وعلى سبيل الاستئناس نعرض لمحكمتكم الموقرة ماأكدته المحكمة الدستورية العليا في مصر باعتبار الراتب التقاعدي (حق عيني وشخصي) حيث قضت في الحكم الصادر فى القضية رقم 16 لسنة 15 قضائية دستورية جلسة 14/1/1995 والمنشور بالجريدة الرسمية(المصرية) رقم (6) لسنة 1995 بتاريخ 9/2/1995. بعدم دستورية الفقرة (1) من المادة(40) من قانون التأمين الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975، وذلك فيما نصت عليه من وقف صرف المعاش فى حالة قيام صاحب المعاش بالعمل بإحدى الجهات الخارجة عن مجال تطبيق القانون لوجود نظام بديل مقرر وفقاً للقانون وذلك حتى تاريخ انتهاء خدمته لديها أو بلوغه السن المقررة لمخالفة ذلك لأحكام المادة (7، 12، 13، 62، 122) من الدستور والتي تكفل مضمونها إلتزام الدولة بكفالة الخدمات التأمينية لمواطنيها وعدم إخلالها بالملكية الخاصة التى ينصرف مدلولها على الحقوق الشخصية والعينية وهو الحق فى المعاش وهما ينشأن أصلاً من علاقتهم بجهات عملهم الأصلية.
كما قضـت هذه المحكمـة بحكمها الصـادر فى القضيـة رقم 52 لسـنة 18 قضائية دستورية، جلسة 7/6/1997، والمنشور بالجريدة الرسـمية (المصرية) رقـم (25) لسـنة 1997 بتاريخ 19/6/1997
بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 40 من القانون رقم 79 لسنة 1975 بشأن التأمين الاجتماعي بالنسبة للمخاطبين بها فيما تضمنته من حرمانهم من حق الجمع بين المعاش والمرتب لمخالفـة ذلك لأحكام المـواد (7، 12، 13، 34، 40، 62 ) من الدستور.
ب . ان القانون المشار اليه يتعارض مع الحريات الاساسية الواردة في هذا الدستور:
من المتفق عليه في اطار المبادئ القانونية العامة التي اكدها مجلس الدولة الفرنسي في الكثير من احكامه، ان هذه المبادئ ترجع الى اصلين هما الحرية والعدالة، ومن المبادئ القانونية المشتقة من حق الحرية الدستوري دون حاجة للنص عليها: مبدأ عدم رجعية القانون ومبدأ احترام الحقوق المكتسبة.
ومن احكام احكام المحكمة الدستورية العليا المصرية بصدد احترام الحقوق المكتسبة في الدعوى رقم 195 لسنة 20 قضائية، ما نصه على إنه (تسري القاعدة القانونية اعتباراً من تاريخ العمل بها على الوقائع التي تتم في ظلها وحتى إلغائها، فإذا حلت محل القاعدة القديمة قاعدة قانونية أخرى، فإن القاعدة الجديدة تسري من الوقت المحدد لنفاذها، ويقف سريان القاعدة القديمة من تاريخ إلغائها، وبذلك يتحدد النطاق الزمني لكل من القاعدتين، وتظل المراكز القانونية التي اكتمل تكوينها وترتبت آثارها في ظل القانون القديم، خاضعة لحكمه وحده).
ثانياً: ان قانون التقاعد قد خرق نص المادة (5) من الدستور العراقي النافذ التي نصت ( السيادة للقانون ، والشعب مصدر السلطات ...........).
فقد ذهب القضاء الدستوري المصري في حكم المحكمة الدستورية في مصر، رقم 131، سنة قضائية 22، في 7 يوليو 2002،
إلى أن الأثر الرجعي للقوانين إذا امتد إلى إلغاء الحقوق المكتسبة فإن هذا الأثر يتحول إلى أداة لإهدار قوة القوانين السابقة ويتعارض مع مبدأ سيادة القانون ومبدأ خضوع الدولة للقانون، فقد جاء حكم للمحكمة الدستورية في مصر ما نصه: (حيث أن الحكم الموضوعي الذي تضمنه هذا النص هو إنهاء خدمة الأساتذة المتفرغين الذين جاوزوا سن السبعين وقت العمل بالقانون 82 لسنة 2000 بعد أن كان قد اكتمل مركزهم القانوني كأساتذة متفرغين قبل العمل به. وحيث أن النعي على هذا الحكم الموضوعي بمخالفته للدستور هو نعى صحيح، ذلك أن هذا الحكم قد وقع في حالة المخالفة الدستورية من وجهين متساندين، الأول: هو أن النطاق الذي يمكن أن يرتد إليه الأثر الرجعى للقانون، هو ذلك الذي يعدل فيه التشريع من مراكز قانونية لم تتكامل حلقاتها، وبالتالي لم تبلغ غايتها النهائية متمثلة في حقوق تم اكتسابها وصار يحتج بها تسانداً إلى أحكام قانونية كانت نافذة، إذ في هذا النطاق يبقى المركز القانوني قابلاً للتدخل التشريعي، تدخلاً قد يزيد أو يزيل من آمال يبنى عليها صاحب المركز توقعاته، فإذا تقرر الأثر الرجعى في غير هذا النطاق، وامتد إلى إلغاء حقوق تم اكتسابها فعلاً وصارت لصيقة بأصحابها، وفقاً لأحكام قانونية كفلت حمايتها والاحتجاج بها في مواجهة الكافة، كأثر لنفاذ هذه الأحكام، فإن الأثر الرجعى للقانون يكون بذلك قد تحول إلى أداة لإهدار قوة القوانين السابقة ومكانتها من الاحترام الذي يجب كفالته طوال الفترة التي كانت نافذة فيها وهو الأمر الذي يتصادم مع أحكام المادتين ) 64 و65 ( من الدستور اللتين تنصان على أن "سيادة القانون أساس الحكم في الدولة " وأن ) تخضع الدولة للقانون). )
تُؤكد بداية هذا النص الدستوري على احترام القانون النافذ والالتزام بما ترتب جراءه من مراكز قانونية وحقوق مكتسبة ، وان لاتُمس هذه الحقوق بالالغاء او الانقاص عند التعديل او الالغاء او من خلال تشريع جديد .
وبالتالي فان الغاء النصوص القانونية التي نظمت حقوقا تقاعدية للمدعي بعد ان اصبحت حقوقا مكتسبة ، يُعد مخالفة دستورية صريحة لنص المادة (5) من الدستور النافذ لعام 2005 . حيث ان الغاء الآثار المترتبة على قوانين مشرعة ، هو اهدار لقوة القانون ،وتسفيه لسيادته وقوته وقت نفاذه .
واشار الاستاذ د.سليمان محمد الطماوي، الوجيز في القانون الإداري، ص 526، وكذلك الاستاذ حسن كيرة، المدخل إلى القانون، ص344. الى تعريفات للحق المكتسب ومنها تعريف الفقيه الفرنسي Merlin بأنه: الحق الذي يدخل ذمة الشخص بشكل نهائي بحيث لا يمكن نزعه منه إلا برضاه. كما عرف بأنه الحق الذي لا يجوز للقاضي أن يمسه بسوء أو يسبله صاحبه بحجة تطبيق قانون مستجد.
وهناك عدة أسس يستند إليها في تقرير فكرة الحق المكتسب، هي:
المنطق القانوني: القاعدة القانونية ما هي إلا خطاب موجه إلى الافراد يتضمن أمراً أو تكليفاً بسلوك معين، والامر أو التكليف لا يتصور منطقاً أو عقلاً توجيهه إلى ما فات من الزمن وإنما إلى ما هو آت، ففي رجوع القاعدة القانونية على الماضي خروج عن المدى الزمني لسريانها الذي يبدأ من يوم نفاذها واعتداء على اختصاص القاعدة القانونية القديمة التي تمتد بحكمها حتى يوم نفاذ القاعدة الجديدة.
مبدأ العدالة: مبادئ العدالة تقضي بعدم حرمان الشخص من حق اكتسبه في الزمان الماضي.( د.عبد الرحمن بدوي، آرسطو, بيروت، دار القلم , 1980, ص108).
مبدأ استقرار المراكز القانونية :يقضي هذا المبدأ بضرورة عدم بقاء المراكز القانونية مهددة إلى ما لا نهاية، ففي انسحاب القاعدة القانونية على الماضي، إخلال بالاستقرار الواجب للمعاملات وإهدار للثقة الواجبة في القانون. فغالباً ما تترتب للافراد حقوق ومراكز وآثار قانونية في ظل القواعد القانونية النافذة في وقتها، ومن ثم لا ينبغي أن يكون تعديل هذه القواعد أو الغاؤها بقواعد جديدة فرصة للمساس بهذه الحقوق والمراكز أو للانتقاص من تلك الآثار التي ترتبت صحيحة في ظل القواعد القانونية القديمة.( حسن كيرة، المدخل إلى القانون، ص340)
الدساتير والقوانين والمبادئ العامة للقانون:: كما سبق البيان في الاحكام القضائية .
ثالثاً : ان قانون التقاعد قد خرق نص المادة المادة (29/ اولا/أ) من الدستور العراقي ، والتي تؤكد على إن الاسرة اساس المجتمع والزام الدولة بالمحافظة على كيانها وقيمها الدينية والأخلاقية والوطنية . وبالتالي فأن اجراء مجلس النواب العراقي بالغاء النصوص القانونية التي نَظمت رواتبا تقاعدية للدرجات الخاصة ووكلاء الوزارات ومن بدرجتهم، محاولة منهم لالغائها او انقاصها نؤكد ان هذا السلوك التشريعي هو مخالف تماما لروح هذه المادة الدستورية ولنصها ، فهو يُعدم اسباب المعيشة لعشرات الآلاف من الاسر العراقية ، ويجعلها عرضة لمشاكل اجتماعية ونفسية ومالية قد تُفكك الاسرة وتأتي على قيمها الدينية والاخلاقية والوطنية ، في ظروف تحتاج الدولة ان يستشعر المواطن دنوها منه وحرصها علية، ليكون بدوره سندها وذخرها ضد من يريدون بها شرا .
لذلك كان على المشرع مراعاة هذه الخصوصية التي التفتَ اليها الدستور واكدها ، وكان على المشرع توخي الدقة في تشريعاته الجديدة ان لاتَمس حقوقا مكتسبة بما يؤدي الى الغائها او انقاصها مخالفا بذلك الدستور في مادة (29) تاسعا ، آنفة الذكراعلاه .
خامساً : ان قانون التقاعد قد خرق نص المادة (37) اولا من الدستور العراقي النافذ ، التي اكدت على ان حرية الانسان وكرامته مصونة . والحرية تتعارض مع اهدار الحقوق المكتسبة وفق المباديء العامة للقانون كما سبق البيان. ونؤكد ان أيةَ كرامةٌ تبقى للانسان يوم يُقطَع راتبهُ التقاعدي الذي هو السبب الوحيد لمعيشته وعائلته ، وهو سبب تواصله الاجتماعي وسببٌ وحيد لتأدية التزاماته المالية التي رتبها المتقاعد على نفسة ، متكئاً على راتبه التقاعدي بعد ان اطمأن لحق له مكتسب جراء قانون عراقي ، نافذ وصحيح شكلا وموضوعا ، وهو والامر التشريعي رقم (9) سنة 2005 المعدل بالأمر (31) لسنة 2005.
عليه نؤكد ان الغاء الراتب التقاعدي او انقاصه للموظفين المشمولين بالامر التشريعي رقم (9) سنة 2005 المعدل بالأمر (31) لسنة 2005.المحالين على التقاعد قبل صدور قانون التقاعد رقم (9) لسنة 2014 هو مخالفة دستورية لنص المادة (37) ، سالفة الذكر اعلاه .
وإذا القينا نظرة عامة على كتب الفقه القانوني لوجدنا ان هذا الفقه قد اورد عدة تعريفات للحق المكتسب تدور جميعها حول فكرة جوهرية واحدة متفق عليه هي عدم المساس بالحق المكتسب وان اختلفوا في الأساس القانوني لعدم المساس بالحقوق المكتسبة وثباتها.
وعلى هذا النحو فان هذا الأساس القانوني عند انصار الاتجاه الشخصي في الحق المكتسب هو الأخلاق التي تأبى ان تسترد ما تم اعطائه لفرد معين في فترة ما من الزمن بحيث اعتمد عليه في تنظيم اموره الحياتية ومعاملاته المدنية أو التجارية فضلاً عن حماية الفرد الذي هو من وجهة نظرهم النواة الاساسية للمجتمع وللتطور الاقتصادي لأن سلب الحق هو قرين لسلب الحرية الفردية. وعلى هذا النحو عرفه (الحق المكتسب) انصار الاتجاه الشخصي للحق، بأنه الحق الذي دخل ذمة الشخص نهائياً بحيث لا يمكن نقضه أو نزعه منه إلا برضاه. أو كما عرفه الفقيه مارلين بأنه: الحق الذي يدخل ذمة الشخص بشكل نهائي بحيث لا يمكن نزعه منه إلا برضاه.
اما الاتجاه الموضوعي في الحق المكتسب فان اساس عدم المساس بالحقوق المكتسبة عنده هو مبدأ الامن الاجتماعي واستقرار المعاملات داخل المجتمع.
وعلى هذا النحو عرفه انصار الاتجاه الموضوعي، بأنه: الحق الذي يملك صاحبه المطالبة به والدفاع عنه أمام القضاء. بينما ذهب اتجاه أخر إلى تعريفه بانه: الحق الذي يقوم على سند قانوني.
كما عرف البعض بأنه الحق الذي لا يجوز للقاضي أن يمسه بسوء أو يسبله صاحبه بحجة تطبيق قانون مستجد.
ان فكرة دوام الحقوق واستقرارها هو الذي قاد إلى قاعدة لا يكاد يخلو منها نظام قانوني ألا وهي قاعدة عدم رجعية القانون على الماضي التي هي ثمرة من ثمار الثورات الشعبية العارمة ضد السلطات الملكية المطلقة التي كانت تتجاوز على الحقوق المكتسبة لعموم الناس بإرادة ملكية شبهت بالإرادة الالهية في كثير من النظم المطلقة، واهم تلك الثورات هي الثورة الفرنسية التي جعلت من هذا المبدأ قاعدة دستورية.
وحسب هذه القاعدة، لا يمكن لقاعدة قانونية جديدة ان تمحو بصفة تلقائية ما تم انتاجه من حقوق في إطار قاعدة قانونية سابقة.
وعليه ليس للمشرع ثمة سلطة، كقاعدة عامة، لإعادة النظر في الحق الذي تم اكتسابه وفقاً لشروط مشروعيته المنصوص عليها قانوناً. وان فعل ذلك يكون قد مس بمتانة العلاقات الإجتماعية، لما فيه من اهدار للثقة بالقانون وتهديم لتصرفات الأشخاص التي تمت صحيحة وقت اكتسابها وإجرائها، فلا يطمئنوا إلى تصرفاتهم، ولا إلى ما اكتسبوه من حقوق. بينما يطبق القانون على الحالات التي تستجد بعد نفاذه لأن الافراد قد علموا بها وبنوا امورهم على اساس منها.
وعدم الطمأنينة إلى القوانين وعدم الثقة فيها واحدة من أهم اسباب زعزعة الكيانات الاجتماعية والسخط الاجتماعي بل والثورات العامة، وعلى هذا النحو اعتبر الفقيه جارلس دي فيشر ضمان استمرار الحقوق من أولويات النظام القانوني أياً كان.
وفي ضوء ما تقدم فإن من يشغل منصب بدرجة خاصة بعد صدور القانون فانه يسري عليه القانون الجديد وهذا هو الاقرب للعدالة ومعطياتها الإنسانية... قال تعالى في محكم كتابه العزيز﴿ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾[1]
فمن فعلها قبل نزول الآية الكريمة فإن الحقوق الزوجية والنسب والميراث وغيرها من حقوق لاتتأثر وتبقى مستمرة لأصحابها، اما من يفعلها بعد نزول الآية فإن الحكم مختلف، والله أعلم.
ان ثبات القانون واستقرار المعاملات التي تمت في ظله تكرس ابتداءاً في شريعة حمورابي فقد تمت الإشارة إلى هذه الشريعة كأول مثال لمفهومٍ قانوني يشير إلى أن بعض القوانين ضرورية وأساسية ومستمرة حتى أنها تتخطى قدرة الملوك على تغييرها. وبنقش هذه القوانين على الحجر فإنها تبقى دائمة، وبهذا يتأكد ويحيا مفهوم الأمن الاجتماعي واستقرار المعاملات في المجتمع والذي تم تكريسه في الأنظمة القانونية الحديثة وأعطت لمصطلح (منقوش على الحجر) ماهيته في الأنظمة الحالية من خلال مبدأ عدم رجعية القانون على الماضي وإحترام الحقوق المكتسبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق