الثلاثاء، 22 يوليو 2014

الشكلية والموضوعية في القانون


الشكلية والموضوعية في القانون



 

فارس حامد عبد الكريم*

لكل تشريع حكمة تفرضها طبيعة الظروف الاجتماعية او الاقتصادية او السياسية السائدة وقت سن التشريع ، الا ان الحياة الاجتماعية بكل عناصرها وظروفها لا تثبت على حال بل انها تتطور حتماً وتتغير الأحوال الاقتصادية والسياسية وتتحرك في كل الاتجاهات الممكنة سواء كانت متوقعة او غير متوقعة، وهنا يثار التساؤل التاريخي الخالد، هل يبقى القانون جامداً في مكانه ام انه يتحرك مع حركة الحياة ومتطلباتها المتجددة دوماً اذا لم يبادر المشرع الى تغيير او تعديل القانون لسبب او لآخر ؟

في عصور تطور القانون الروماني القديم، ذهب فلاسفة وفقهاء القانون ان الفيصل في ديمومة النص في العمل او تعطيله ،تشريعياً او عملياً من قبل القاضي (البريتور)، هو حكمة التشريع ولهذا وضعوا قاعدة ( ان التشريع متى توقفت حكمته توقف حكمه)، وهم في ذلك على حق فتطبيق القانون ليس مسألة شكلية فحسب وإنما هو مسألة موضوعية في جوهرها، لان العدالة لا تستمد وجودها من مجرد تطبيقات شكلية.

وكانت وجهة النظر القديمة ترى في علم المنطق، باعتباره علم قياس المعقولات، ووسيلته القياس المنطقي، الحل الأمثل لتطبيق القانون بعدالة ومعقولية وحيادية.

فيما يرى آخرون من فقهاء القانون  المحدثين ان القانون علـم وفـن وينبغي ان يُعبر عن غايات متحركة ومتجددة في العالم المعاصر، وانه لا يمكن الوصول لأحكام جديدة تساير التطور الإنساني عن طريق توحيد الحلول وفقا للنموذج المنطقي.

وكان ارسطو قد عبر عن ذلك بطريقة أخرى حين وضع أسس علم المنطق، عندما اقر بصعوبة تطبيق التشريعات المجردة على الحالات الواقعية حينما اخذ يتصدى للحالات المستعصية وهي تلك الحالات التي يؤدي تطبيق القاعدة العامة عليها الى نتائج ظالمة فنبه الى مصحح لجمود العدل القانوني الا وهو العدل الخاص او الإنصاف بغية إصلاح ما هو ظالم وغير معقول.

فالقانون عـِلم عقلي ، كما يراه اتجاه واسع من فقهاء القانون ، يتضمن مجموعة من المبادئ المنسقة تنسيقا منطقيا ، ويُستنتج منها او يترتب عليها قواعد قانونية لا يتيسر الوصول إليها في الغالب إلا من خلال عمليات معقدة كالتحليل والتركيب والتكييف والاستنتاج والاستنباط.

وفي ضوء ذلك فان وجود قواعد القانون واستخدام المنطق في تفسيرها لا يكفيان لوحدهما لإعطاء حلول ملائمة مع تطورات الحياة الآنية والمستقبلية ، وإنما ينبغي ان يكون للقاضي دور في الملائمة بين حكمة التشريع  والواقع ، وكما قال الرومان قديما ( ان التشريع متى توقفت حكمته توقف حكمه )

تعود جذور علم المنطق الى ارسطو ، حيث اعتبره فنا وأداة في خدمة المعرفة ، فلم تشغل رواد الفلسفة اليونانية الأوائل المسائل القانونية بوجه خاص، إلا ان مفهوم القانون فلسفياً بدأ يتبلور نسبياً لدى المدرسة الفيثاغورسية ، فالعدالة عندهم تقوم على معيار عددي حسابي ، فهي علاقة حسابية وعملية مساواة ، ومن ثم لزم الثواب والعقاب على أساس العدل التبادلي والتناسب بين الفعل والمعاملة التي يلقاها، وهذه فكرة تعود بجذورها الى البابليين، وربما كانت هذه الفكرة هي التي قادت او تطورت الى فكرة القياس المنطقي.

وفي وقت لاحق أعلن كلسن زعيم الوضعية القانونية ان ( لا شأن للقانون بعلم الحياة ) ، وان نظرية القانون يجب ان تتناول القانون كما هو كائن لا كما ينبغي أن يكون ، واستبعد فكرة العدالة من مجال القانون، بداعي ان الحكم على القانون بالعدالة او عدم العدالة يتطلب معايير لا تخضع للمعرفة العلمية ودعا الى نظرية محضة في القانون ، ومن ثم هاجم نظرية القانون الطبيعي واصفاً اياها بانها حصيلة استنتاج غير صحيح ، وبذلك استبعد كلسن وأنصاره الحقائق والقيم المطلقة من المنهج القانوني،

 ويترتب على هذه النظرية ، ان كل سلوك إنما يحدده القانون بصورة مباشرة او غير مباشرة ، وعندما لا يكون عمل الفرد ممنوعا بِسُنة قانونية فهو مسموح به قانونا بصورة غير مباشرة ، وبتعبير آخر، حسب وجهة النظر هذه ، ان القانون لا يمكن ان يحتوي على ثغرات، ولا يمكن ان يتمتع القاضي بأية سلطات تقديرية .

أدى كل ذلك ، وخاصة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين  ، الى نتائج مجحفة تأباها العدالة الحقة ، فحق الملكية مطلق ومن يستخدم حقه لا يمكن ان يعتبر مسيئا تحت أية ظروف ، وما بني على باطل فهو باطل وان منطق البطلان هذا مطلق لا يقبل تعديلاً او انحرافاً ، فعقد الزواج الباطل لا يرتب أية آثار او حقوق للزوجة المسكينة او الأولاد ، وعقد العمل الباطل يلقي العامل في الشارع دون أية حقوق ، ولا مسؤولية بلا خطأ ولو مات العامل وهو يقدم خدماته لصاحب العمل ، ذلك ان المنطق يُبرز الشكل  ويُغفل الواقع .

ويُعطي استخدام القياس المنطقي في مجال علم القانون بطريقة آلية ، نتائج جامدة وحلولا منسقة ، ثابتة ، متكررة ، قابلة للتوقع مسبقا ،كما ان إعمال القياس في حد ذاته محفوف بالمخاطر وفي مقدمتها التسليم بإطلاق المقدمة الكبرى وافتراض صلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان ، في حين ان الحقائق نسبية .

  ومن تطبيقات الاتجاهات الشكلية في تفسير القانون ، نورد الواقعتين التاليتين :

قضية ارنولد الطحان : عرضت هذه القضية على المحكمة العليا في بروسيا سنة 1779 ، وتتلخص وقائعها ، بان ارنولد كان رجلا من عامة الشعب ، يدير طاحونة على سفح تل ، ويقتات من ماتدره عليه من عوائد هو وعائلته ، مستعيناً بالمياه المنحدرة من جدول يمر في ارض في أعلى التل مملوكة لإقطاعي ، فرأى الإقطاعي ذات يوم ان يحفر بركة داخل أرضه لتربية الأسماك، فاحتجز فيها مياه الجدول ، فتوقفت الطاحونة عن العمل وساءت أحوال ارنولد ، فرفع دعوى على جاره لمنعه من حجز الماء ، لكن الإقطاعي استمر في تعنته زاعماً انه يستخدم ملكه ، فالماء إنما يجري في أرضه ، وأيدته المحكمة العليا ، رافضة دعوى الطحان ، قائلة ان مالك الأرض يحوز ما بداخلها من ماء ، ومن يستعمل حقه لا يعتبر مخطئا ولا يكون بالنتيجة  قد اضر بالغير .

وهكذا يبدو ان الظلم يمكن ان يتحقق بطريقة تأباها النفوس،ولو ان تطبيق النصوص كان تم بطريقة صحيحة .  

قضية الرئيس روزفلت : أصدرت بعض الولايات الأمريكية تشريعات إصلاحية لحماية العمال من تحكم أصحاب رؤوس الأموال الذين كانوا يفرضون شروط مجحفة بحق العمال عند تشغيلهم ويدفعون لهم أجور بائسة ويرغمونهم على العمل في ظل أوضاع مزرية للغاية ، فأصرت المحكمة الأمريكية العليا منذ عام 1905 الى عام 1936 ، على اعتبار تلك التشريعات غير دستورية بدعوى مخالفتها لمبدأ حرية التعاقد ومبدأ العقد شريعة المتعاقدين ، ولما اشتدت الأزمة الاقتصادية العالمية منذ سنة 1929 الى سنة 1932 ، وكانت شديدة الوطأة على عامة المجتمع ، لجأ الرئيس روزفلت الى استصدار عدة قوانين لتنفيذ بعض الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية ، إلا ان قضاة المحكمة العليا حكموا بعدم دستورية هذه القوانين ، فضاق روزفلت ذرعا بأحكام أولئك القضاة، ونصحهم بمسايرة روح العصر ، والتف الشعب الأمريكي حول روزفلت داعماُ موقفه ازاء أولئك القضاة ، إلا أنهم استمروا في مواقفهم المتشددة ، فلجأ روزفلت الى تهديدهم بإعادة تشكل المحكمة اذا استمروا في تعنتهم ، واشتدت الأزمة حينما سَخر أصحاب رؤوس الأموال إمكانياتهم لمهاجمته من خلال مختلف الصحف الأمريكية بعد ان اتهموه بالاستبداد ومخالفة أسس الحياة الديمقراطية ، إلا ان المحكمة اضطرت أخيرا الى ان تتراجع عن أحكامها السابقة وقضت بدستورية قوانين الإصلاح .وهكذا كان القضاء الأمريكي ، الذي ينتمي الى المدرسة الشكلية في القانون ،سببا في تأخر الإصلاح الاجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية، قرابة ثلث قرن من الزمان .

دور الاجتهاد القضائي في تطوير النظام القانوني

للقضاء  دور متميز  في الحياة القانونية ، وهذا الدور متميز عن مجرد إنشاء القواعد العامة المجردة الذي هو من عمل المشرع لان القاضي هو من يضفي الفعالية من الناحية العملية على تلك القواعد و يجعلها ملائمة للواقع ومن أدواته في ذلك قواعد التفسير، المبادئ العامة للقانون ، المعيار  القانوني ، مبادئ العدالة وهو يكاد  يقترب من عمل المشرع من خلال الأداتين الأخيرتين فهو الذي  يعين مضمونها عند نظره في قضية معروضة عليه .

وهناك امثلة كثيرة عن اجتهادات المحاكم التي استقرت واصبحت كالقاعدة القانونية سواء بسواء ، فقد اجتهد القضاء الفرنسي وقرر ان البطلان الذي يشوب بيع ملك الغير هو بطلان نسبي ، فاستقر هذا الاتجاه واتبعته جميع المحاكم ،رغم ان المادة(1599) مدني فرنسي لم تنص على أكثر من القول على ان بيع ملك الغير باطل ولم تحدد  هل هو بطلان مطلق ام بطلان نسبي ، وبديهي ان يترتب على هذا الاجتهاد خلق مراكز قانونية جديدة لأطراف العلاقة القانونية في بيع ملك الغير لم يكن النص قد تضمنها لا صراحة ولا ضمناً .

وأخذ القضاء الفرنسي بنظرية الإثراء دون سبب رغم انه لا يوجد مبدأ عام في القانون الفرنسي يقرر هذه النظرية ، وكانت حجته في ذلك ان  هناك نصوص تشريعية وردت بشأن بعض حالات الإثراء دون سبب  ، كالفضالة ودفع غير المستحق ونحوهما ، فأعتبرها القضاء الفرنسي ليست سوى تطبيقات متفرقة لهذا المبدأ وردت على سبيل المثال لا الحصر فأدخل المبدأ كله جملة وتفصيلا الى النظام القانوني الفرنسي باجتهاده فأصبحت النظرية اليوم كأنها القانون المسنون لا يستطيع احد القول ان القانون الفرنسي لا يأخذ بها .

ومن الأمثلة على اثر تغير المبادئ والمثُل الاجتماعية على الاجتهاد القضائي ، إقرار نظام التعسف في استعمال الحق دون نص خاص ، حيث ان القانون الفرنسي والقانون المدني المصري القديم لم يتضمنا نصاً خاصاً بذلك ، وكان ذلك بدافع النظرة التقديسية الى حق الملكية والحقوق الفردية ، حيث عرف حق الملكية فيهما بأنه ( الحق للمالك في الانتفاع بما يملكه والتصرف فيه بطريقة مطلقة ) .

الا ان النظرة الاجتماعية للحق ومنه حق الملكية تغيرت بمرور الوقت وأصبح ينظر للحقوق على ان لها وظيفة اجتماعية تؤديها في إطار عموم مصالح المجتمع ،فظهرت اتجاهات فكرية تنادي بضرورة الحد  من اطلاق الحقوق وتقييدها بواجب عدم التعسف في استعمالها .

تأثر القضاء الفرنسي والمصري بهذه النظرة المتطورة للحقوق ، فأقر مبدأ نسبية الحقوق وقيدها بواجب عدم التعسف في استعمال الحق ،واعتبر من يتعسف في استعمال حقه كمن يرتكب عملا غير مشروع ويكون مسؤولا عن الأضرار التي تلحق بالغير جراء ذلك التعسف .

ومن جانب آخر ، فان اعتماد القضاء الانكليزي على المعايير القانونية أتاح له تطوير الأحكام القضائية التي كانت غالبا ما تتقيد بالأعراف القضائية ، ومنها معيار المعقولية ، ومفاده ان تفسير القوانين والأعراف وتكييف الوقائع ينبغي ان يكون في النهاية منسجماً مع مقتضيات العقل والفهم الصحيح للأمور ، وبتطبيق هذا المعيار على الشروط العقدية التي  اختل توازنها بسبب ما طرأ من ظروف جديدة لم تكن بالحسبان عند التعاقد ، يتبين ما يلي : ان تلك الشروط تقوم في الأصل على مصلحة الدائن والمدين معاً ، الا ان تطبيق معيار المعقولية ، يكشف عن وجود مصلحة ثالثة، هي مصلحة الجماعة ، التي يهمها ان ان تنفذ هذه الشروط ، بشرط ان لا يترتب على تنفيذها إفلاس مدينين ( تجار ) معقولين ، إلا انهم كانوا سيء الحظ بسبب ظروف أجنبية لا دخل لإرادتهم في تحققها . فحكم  القضاء الانكليزي بفسخ مثل هذا العقد حيث ثبت لديه ان المدين لم يكن مخطئاً ، وان التنفيذ قد أصبح مرهقاً بشكل لو أمكن لرجل عاقل ان يتنبأ به لما تعاقد.

ومن الجدير بالذكر ان قانون حمورابي (حوالي القرن العشرين قبل الميلاد) كان قد اعتمد مفهوم السبب الأجنبي الذي يعفي المدين من تنفيذ التزامه ، فالمادة (48) منه تقرر إعفاء المزارع الذي يهلك زرعه بفعل الفيضان من تقديم حبوب إلى دائنه في ذلك العام ويعفى من الفوائد الخاصة بتلك السنة .

************

 

 استاذ جامعي ـ النائب السابق لرئيس هيئة النزاهة*

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق